خوف القتل سبب الغيبة والظهور
السيد محمد القبانجي
لا يختلف اثنان في أنَّ أحد أسباب الغيبة الرئيسية هو خوف القتل، وهذا السبب ساري المفعول في جميع أعصار الغيبة، وذلك لكثير من الروايات الصريحة في هذا المضمون، ومنها ما ورد عن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ للقائم (عليه السلام) غيبة قبل أن يقوم»، قلت: ولِمَ؟ قال (عليه السلام): «إنَّه يخاف» - وأومأ بيده إلى بطنه - يعني القتل.
ولكن أنَّ نفس هذه العلَّة تكون سبباً للظهور، فهذا ما لا يتصوَّره البعض، إذ كيف تكون علَّة واحدة، للغيبة تارةً وللظهور أخرى.
ولكن مع التأمّل قليلاً نجد عدم التعارض، ويمكن حلّ الإشكالية بما يلي:
إنَّ الإمام (عجّل الله فرجه) غاب عن الأنظار حذراً من القتل، لأنَّه (عجّل الله فرجه) لو ظهر علانية فسوف يلقى القبض عليه، ويكون مصيره كمصير آبائه (عليهم السلام)، ولا يستطيع النهوض بالأمر وإعلان الحاكمية العالمية، لأنَّ المجتمع آنذاك لم يكن مهيّأً لمثل هذه الحكومة الإلهية، مع عدم تحقّق بقيّة أسباب الظهور، ممَّا اضطرَّ الإمام (عجّل الله فرجه) إلى العمل بشكل خفي لإدارة الصراع مع الظالمين عبر التاريخ، وبعد كلّ هذه القرون من العمل السرّي المنظَّم غاية التنظيم، وبعد أن تتوفَّر سائر الشروط الأخرى والأسباب المهيّأة للظهور المقدَّس، يضيق الخناق على الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وينكشف للأعداء بشكل جزئي، وتضيق الخيارات لديه، ممَّا يجعله في دائرة ضيّقة وخيارات محدودة، فهو إمَّا أن يعلن عن نهضته المباركة والتي آن أوانها، ويجد من يناصره - سواء على مستوى النخب أو القاعدة الجماهيرية -، وإمَّا أن يُقتل ولم يحقّق الهدف الإلهي بعد أن ضيّق الخناق عليه وعُلِمَ بوجوده في المدينة ومحاولة السفياني استئصاله بإرسال جيش كبير لإبادة المدينة ومن فيها وعلى رأسهم الإمام (عجّل الله فرجه).
فكما أنَّ خيار الغيبة كان هو المتعيّن لمحذور القتل، فسوف يكون خيار الظهور والإعلان عن الثورة هو المتعيّن أيضاً لنفس المحذور، وهذا لا يعني - بطبيعة الحال - أنَّ خوف القتل هو العلَّة التامّة للظهور، بل كما سبق وأكَّدنا أنَّ الأجواء السياسية والاجتماعية تكون مناسبة أيضاً لإعلان الثورة، ويدلُّ على ما ذهبنا إليه روايات عدَّة:
منها: عن أبي وائل، قال: نظر أمير المؤمنين إلى الحسين (عليهما السلام) فقال: «إنَّ ابني هذا سيّد كما سمّاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سيّداً، وسيخرج الله من صلبه رجلاً باسم نبيّكم يشبهه في الخَلق والخُلُق، يخرج على حين غفلة من الناس، وإماتة للحقّ، وإظهار للجور، والله لو لم يخرج لضُربت عنقه، يفرح بخروجه أهل السماوات وسكّانها، وهو رجل أجلى الجبين، أقنى الأنف، ضخم البطن، أزيل الفخذين، بفخذه اليمنى شامة، أفلج الثنايا، ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً».
ومنها: عن قتادة، قال: يُجاء إلى المهدي (عليه السلام) وهو في بيته، والناس في فتنة تهراق فيها الدماء، فيقال له: قم علينا، فيأبى حتَّى يخوَّف القتل، فإذا خوّف بالقتل قام عليهم، فلا يهراق في سببه محجمة دم.
ولا يتصوَّر خوف القتل والتهديد به من قبل أصحابه، بل من الأعداء الذين يحيطون به (عجّل الله فرجه)، والذين ضيَّقوا الخناق عليه وعلى حركته الخفية، ممَّا سبَّب شمول التهديد والتصفية الجسدية له (عجّل الله فرجه) ولأصحابه، فتخويف أصحابه له بالقتل يعني ذكرهم وتحذيرهم الإمام وخوفهم عليه أن يقتل من قِبَل الأعداء كما خوّف الحسين (عليه السلام) القتل من قبل الكثير في المدينة، أمثال محمّد بن الحنفية وابن عبّاس وغيرهما.