الشوق إلى سامراء
محمد علي مجيد
روى علي بن عيسى الأربلي في كتابه <كشف الغمّة> عند ذكر أخبار مولانا وسيدنا وإمامنا الإمام القائم محمّد بن الحسن عليه السلام عن جماعة من الثقات أنه كان في البلاد الحليّة شخص يقال له إسماعيل بن الحسن الهرقلي(١) من قرية يقال لها: هرقل(٢) مات في زمانه وما رآه، حكى له ولده شمس الدّين أيضاً قال: حكى لي والدي أنّه خرج فيه _ وهو شاب _ على فخذه الأيسر توثة(٣) مقدار قبضة الإنسان، وكانت في كلِّ ربيع تنشقّ ويخرج منها دم وقيح، ويعطّله ألمها عن كثير من أشغاله، وكان مقيماً بهرقل، فحضر إلى الحلّة يوماً ودخل إلى مجلس السيد السند السعيد رضي الملّة والدين عليّ بن طاووس رحمه الله(٤) وشكا إليه ما يجده منها وقال: اُريد أن أُداويها، فأحضر له أطبّاء الحلّة وأراهم الموضع فقالوا: هذه التوثة فوق العرق الأكحل، وعلاجها خطر، ومتى قُطعت خيف أن يقطع العرق فيموت، قال السيد الأَيِّدُ(٥) السعيد رضي الملّة والدين قدس سره أنا متوجّه إلى بغداد، وربّما أطباؤها أعرف من هؤلاء فأصحبني، فصعد معه وَأحضر أطباء بغداد، فقالوا كما قال أولئك، فضاق صدره، فقال له السيد السعيد قدس سره: إنّ الشرع قد فسح في الصلاة في هذهِ الثياب، وعليك الاجتهاد في الاحتراز فلا تغرر بنفسك، فالله تعالى قد نهى عن ذلك ورسولُه، فقال له والدي: إذا كان هذا الأمر هكذا وقد وصلت إلى بغداد فأتوجّه إلى زيارة المشهد الشريف بسرّ من رأى _ على مشرفه السلام _ ثمّ اَنحَدِِرُ إلى أهلي، فحسَّن له ذلك، فترك ثيابه عند السيد السعيد المذكور وتوجّه. قال: فدخلت المشهد وزرت الأئمّة عليهم السلام، ونزلت السرداب واستعنت بالله تعالى وبالإمام عليه السلام، وقضيت بعض الليل في السرداب، وبقيت في المشهد إلى الخميس، ثمّ مضيت إلى دجلة واغتسلت ولبست ثوباً نظيفاً، وملأت إبريقاً كان معي، وصعدت اُريد المشهد الشريف فرأيت أربعة فرسان خارجين من باب السور، وكان حول المشهد قوم من الشرفاء يرعون أغنامهم فحسبتُهم منهم، فالتقينا فرأيت شابين أحدهما عبد مخطوط والآخر منهما متقلد سيفاً وشيخاً متنقّباً بيده رمحاً والآخر متقلّد بسيف وعليه فرجية(٦) ملونة فوق السيف وهو متحنّك بعذبته، فوقف الشيخ صاحب الرمح يمين الطريق ووضع كعب رمحه في الأرض ووقف الشابان عن يسار الطريق، وبقي صاحب الفرجيّة على الطريق مقابل والدي، ثم سلّموا عليه، فردّ عليهم السلام، فقال له صاحب الفرجيّة: أنت غداً تروح إلى أهلك؟ فقال له: نعم، فقال له: تقدم حتّى أبصر ما يوجعك؟ قال: فكرهت ملامسته وقلت في نفسي: أهل البادية لا يكادون يتحرّزون عن النجاسة، وأنا قد خرجت من الماء وقميصي مبلول، ثمّ أني مع ذلك تقدّمت إليه، فلزمني بيدي ومدّني إليه، وجعل يلمس جانبي من كتفي إلى أن أصابت يده التوثة، فعصرها بيده فأوجعني، ثمّ استوى في سرج فرسه كما كان، فقال لي الشيخ: أفلحت يا إسماعيل، فعجبت من معرفته إسمي، فقلت: أفلحنا وأفلحتم إن شاء الله تعالى، قال: فقال لي الشيخ: هذا هو الإمام، قال: فتقدمت إليه فاحتضنته وقبّلتُ فخذه، ثمّ إنّهُ سار وأنا أمشي معه محتضنه فقال: ارجع، فقلت له: لا أُفارقك أبداً، فقال: المصلحة رجوعك، فأعدت عليه فقال مثل القول الأوّل، فقال الشيخ: يا إسماعيل ما تستحي؟! يقول لك الإمام مرّتين ارجع وتخالفه، فجبهني هذا القول، فوقفت فتقدم خطوات والتفت إليَّ وقال: إذا وصلت بغداد فلا بدَّ أن يطلبك أبو جعفر _ يعني الخليفة المستنصر _(٧) فإذا حضرت عنده وأعطاك شيئاً فلا تأخذه، وقُل لولدنا الرضي ليكتب لك إلى عليّ بن عوض فإنّي أوصيته يعطيك الّذي تريد، ثمّ سار وأصحابه معه، فلم أزل قائماً أبصرهم إلى أن غابوا عنّي وحصل عندي أسف لمفارقته، فقعدت إلى الأرض ساعة، ثمّ مشيت إلى المشهد، فاجتمع القوّام حولي وقالوا: نرى وجهك متغيراً، ءَأوجعك شيء؟ قلت: لا، قالوا: أخاصمك أحد؟ قلت: لا ليس عندي ممّا تقولون، لكن أسألكم هل عرفتم الفرسان الذين كانوا عندكم؟
قالوا: بلى(٨) هم من الشرفاء أرباب الغنم، فقلت: لا، بل هو الإمام القائم عليه السلام فقالوا: الإمام هو الشيخ أو صاحب الفرجية؟ قلت: هو صاحب الفرجية، فقالوا: أريته المرض الّذي فيك؟
فقلت: هو قبضه بيده، وأوجعني، ثمّ كشفت رجلي فلم أرَ لذلك المرض أثراً فتداخلني الشكّ من الدهش، فأخرجت رجلي الأخرى فلم أرَ شيئاً، فانطبق الناس عليَّ ومزّقوا قميصي، فأدخلني القوّام خزانة ومنعوا النّاس عنّي، وكان ناظر بين النهرين بالمشهد فسمع الضجّة، وسأل عن الخبر فعرّّفوه، فجاء إلى الخزانة وسألني عن اسمي، وسألني منذ كم خرجت من بغداد؟ فعرّفته أنّي خرجت من أوّل الاُسبوع فمشى عنّي، وبتّ بالمشهد وصلّيت الصبح، وخرجت وخرج النّاس معي إلى أن بعدت عن المشهد ورجعوا عنّي، ووصلت إلى أوان(٩) فبتّ بها وبكّرت منها اُريد بغداد، فرأيت النّاس مزدحمين على القنطرة العتيقة يسألون من ورد عليهم وعن اسمه ونسبه، وأين كان؟ فسألوني عن اسمي، ومن أين جئت؟ فعرّفتهم، فاجتمعوا عليّ ومزّقوا ثيابي ولم يبق لي في روحي حكم، وكان الناظر بين النهرين كتب إلى بغداد وعرّفهم الحال، ثمّ حملوني إلى بغداد وازدحم النّاس عليَّ وكادوا يقتلونني من كثرة الزحام، وكان الوزير القمي رحمة الله تعالى عليه(١٠) قد طلب السيد الأيد السعيد رضي الدّين عليّ بن طاووس ; وتقدّم أن يعرِّفه صحّة هذا الخبر. قال: فخرج رضيّ الدين ومعه جماعة فتوافينا بباب النوبي فرد أصحابه الناس عنّي، فلمّا رآني قال: أعَنْكَ يقولون؟ قلت: نعم فنزل عن دابّته وكشف عن فخذي فلم يَرَ شيئاً، فغشي عليه ساعة وأخذ بيدي وأدخلني على الوزير، وهو يبكي ويقول: يا مولانا هذا أخي وأقرب الناس إلى قلبي،(١١) فسألني الوزير عن القصة، فحكيت له، فأحضر الأطباء الذين كانوا أشرفوا عليها، وأمرهم بمداواتها، فقالوا: ما دواؤُها إلاّ القطع بالحديد، ومتى قطعها مات، فقال لهم الوزير: فبتقدير أن تُقطع ولا يموت في كم تبرأ؟ فقالوا: في شهرين وتبقى في مكانها حفيرة بيضاء ولا ينبت فيها شعر، فسألهم الوزير: متى رأيتموه؟ فقالوا منذ عشرة أيّام، فكشف الوزير عن الفخذ الذي كان فيه الألم فرآها وهي مثل أختها وليس فيها أثر أصلاً، فصاح أحد الحكماء: هذا عمل المسيح، فقال الوزير: حيث لم يكن عملكم، فنحن نعرف من عملها، ثمّ إنّه أُحضر عند الخليفة المستنصر فسأله عن القصة، فعرّفه بها كما جرى، فتقدّم له بألف دينار، فلمّا حضرت قال: هذه فأنفقها، فقال له: ما أجسر أن آخذ منهُ حبّة واحدة، فقال الخليفة: ممّن تخاف؟ قال من الذي فعل معي هذا، قال: لا تأخذ من أبي جعفر شيئاً، فبكى الخليفة وتكدّر، وخرج من عنده ولم يأخذ شيئاً، ثمّ قال الشيخ عليّ بن عيسى رحمه الله عقيب ذلك: كنت في بعض الأيّام أحكي هذه القصة لجماعة عندي، وكان هذا شمس الدين محمّد ولده عندي وأنا لا أعرفه، فلمّا انقضت الحكاية قال: أنا ولده لصلبه، فعجبت من هذا الاتفاق فقلت: هل رأيت فخذه وهي مريضة؟ فقال: لا، لأنّي أصبو عن ذلك، ولكنّي رأيتها بعدما صلحت ولا أثر فيها وقد نبت في موضعها شعر.
وسألت السيد صفيّ الدين محمّد بن محمّد بن بشر العلوي الموسوي، ونجم الدين حيدر بن الأيسر رحمه الله وكانا من أعيان الناس وسراتهم، وذوي الهيئات منهم، وكانا صديقين لي وعزيزين عندي فأخبراني بصحة هذه القصة، وأنّهما رأياها في حال مرضها وحال صحتها، وحكى لي ولده هذا أنّه كان بعد ذلك شديد الحزن لفراقه عليه السلام حتّى أنّه جاء إلى بغداد، وأقام بها في فصل الشتاء، وكان كلّ أيّامه يزور سامراء ويعود إلى بغداد فزارها في تلك السنة أربعين مرّة طمعاً أن يعود له الوقت الذي مضى أو يقضي له الحظ بما قضى، ومن الذي أعطاه دهره الرضا، أو ساعده بمطالبه صرف القضا، فمات رحمه الله بحسرته، وانتقل إلى الآخرة بغصّته، والله يتولاّه وإيّانا برحمته بمنّه وكرامته.(١٢)
الهوامش:
ــــــــــــــــــــــ
(١) إسماعيل بن الحسن الهرقلي: هو والد محمّد الهرقلي الذي كان عالماً، فاضلاً من تلامذة العلامة الحلّي، وهو الذي كتب كتاب المختلف بخطه زمان مؤلّفه وقرأ عليه، وتوجد عدة كتب خطية بخط يده فمنها (المختلف) رآه الحرّ العاملي، ومنها (الشرائع) والنسخة عند السيد محمّد آل حيدر في بلدة الكاظمين، ومنها (المواهب الإلهية) عند العلامة النوري ;. وأما نسبه فهو إسماعيل بن الحسين بن الحسن بن عليّ الهرقلي.
(٢) هرقلة: قرية مشهورة من بلد الحلّة من عمل الصدرين.
(٣) التوثة: بثرة متقرحة.
(٤) ابن طاووس الحسني: السيّد الأجلّ الأورع الأزهد، قدوة العارفين الّذي ما اتفقت كلمة الأصحاب على اختلاف مشاربهم وطريقتهم على صدور الكرامات عن أحد ممّن تقدّمه أو تأخّر عنه غيره. ويظهر من مواضع كتبه خصوصاً (كشف المحجّة) إنّ باب لقائه إيّاه عليه السلام كان مفتوحاً، وكان من عظماء المعظمين لشعائر الله تعالى.
وقال العلاّمة: كان أعبد من رأيناه من أهل زمانه، وتوفّي ; سنة (٦٦٤ هـ).
(٥) الأيّد: القوي العبادة.
(٦) الفرجية: نوع من الثياب.
(٧) المستنصر بالله، أبو جعفر، منصور بن الظاهر: ولد في صفر سنة (٥٨٥ هـ) وولي بغداد بعد وفاة أبيه سنة (٦٢٣ هـ) وهو باني المدرسة المستنصرية ببغداد على شط دجلة من الجانب الشرقي، في عهده استولى المغول على كثير من البلاد حتى كادوا يدخلون بغداد إلى أن توفي بها سنة (٦٤٠ هـ).
(٨) الصحيح أن يكون الجواب هنا: نعم، ولا موضع لكلمة (بلى) فيها.
(٩) أوانا: بلدة كثيرة البساتين، نزهة من نواحي دجيل بغداد، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ.
(١٠) الوزير القمي: هو مؤيد الدين محمّد بن محمّد بن عبد الكريم بن برز القمّي، تولّى الوزارة للناصر، ثمّ للظاهر، ثمّ للمستنصر العبّاسيين، حتّى قبض عليه المستنصر وحبسه في باطن دار الخلافة مدّة، فمرض وأخرج مريضاً فمات رحمه الله في سنة (٦٢٩ هـ).
أقول: ومن معرفة تولّي المستنصر للخلافة وموت الوزير القمي يعرف تأريخ هذه الحكاية فالحكاية إذن واقعة بين سنتي (٦٢٣ هـ) وهي سنة تولّي الخليفة المستنصر (٦٢٩ هـ) وهي سنة موت الوزير القمي رحمه الله.
(١١) كلام السيد ابن طاووس هذا في حق إسماعيل الهرقلي يدل على عظيم منزلة الهرقلي.
(١٢) أنظر كشف الغمة ٢: ٤٩٣؛ بحار الأنوار ٥٢: ٦١.