إمكان معرفة الإمام وتشخيصه
سماحة السيد محمد علي الحلو/ رئيس التحرير
المقدمة:
وردت من مركز (الرسالة) في اليمـن عـشرون شبهة وإشكال حول حقيقة الإمام المهدي عليه السلام، وقد ارتأت (الانتظار) إيراد هذه الشبهات في أعدادها تباعاً مع الرد عليها لبيان الحقيقة الناصعة التي هي من أسس الاعتقاد.
الشبهة الأولى:
كان ردنا في العدد السادس عن الشبهة التي تقول: (استناداً إلى الحديث الشريف: من مات ولم يعرف إمام زمانه مامت ميتة جاهلية) فهل نحن مكلفون بمعرفة الإمام ذاتاً أم أنه يكفينا كونه حياً وموجوداً كحجة حتى ولو كان غائبا؟ وقد أجبنا عن ذلك: بأن الإمام في زمن الغيبة يجب معرفته بذاته وخصوصياته، وجاءت هذه الشبهة على نفس هذا المحور من الاشكال: تقول الشبهة:
إن قلتم ذاتاً؛ فهل جميع الاثني عشرية الآن عارفون لإمام الزمان (المهدي) ذاتاً ويستطيعون تحديده والإشارة إليه وتمييزه؛ إن قلتم نعم فحدّدوه لنا، وإن قلتم لا؛ فهل موتاكم موتى جاهلية؟!
الجواب:
قلنا أن خصوصيات الغيبة لا تقتضي إشارة المكلفين للإمام بذاته، وقولنا (غائب) بمعنى أنّ إمكانية مشاهدته محدودة إلا على خواص شيعته وصفوة مواليه، وإلا لا معنى للإطلاق على زمانه بزمان الغيبة، نعم خصوصيات معرفة الإمام الغائب تتلخّص في التالي:
أولاً: معرفة وجوب الحجة وأن الأرض لا تخلو من حجّة مشهور أو غائب مستور ـ كما في بعض كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ـ.
ثانياً: معرفته بشخصه ونسبه وهو:
محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن محمد الباقر بن علي السجاد بن الحسين السبط شهيد كربلاء ابن علي بن أبي طالب من فاطمة بنت رسول الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ثالثاً: التسليم بأنه حي غائب بأمر الله تعالى، ويظهر بأمره تعالى ليملأها قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً.
ومعرفته بذاته بهذا المقدار مقتضى حال غيبته صلوات الله عليه، وبهذا المقدار يصدق معرفته ذاتاً لا معرفته صفةً.
علماً أن الروايات تدلّ على أنه صلوات الله عليه لم يكن مختفياً بشخصه بل بعنوانه، فهو يجوب البلدان ويتعايش مع الناس، ويرعى مصالح شيعته، فهو يلتقي عليه السلام مع شيعته دون معرفتهم له، ويتابع شؤونهم ويراقب مصالحهم ويلتقي بهم، حتى أن الناس عند ظهوره عليه السلام كلٌ يقول إنّي رأيت هذا الشخص لكثرة تماسّه بهم ومخالطته معهم، لكن مقتضى غيبته تخفّيه وعدم اطلاع الناس على شأنه لمصالح لا يعلمها الا الله تعالى، وإن كان بعضها منسوباً إلى خوفه من الأعداء وحذره من كيدهم، وتحفّظه من مراقبتهم له.
ولا غرابة في ذلك فإن يوسف النبي كان يخالط الناس ويتعامل معهم وهم له منكرون حتى أذن الله تعالى له بإعلامهم عن نفسه وإخبارهم عن أمره.
روى الصدوق في كمال الدين بسنده إلى سدير عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام يقول: إن في القائم سُنّة من يوسف، قلت: كأنك تذكر خبره أو غيبته؟
فقال لي: وما تنكر هذه الأمة أشباه الخنازير؟! إنَّ إخوة يوسف كانوا أسباطاً، أولاد أنبياء، تاجروا يوسف وبايعوه وهم أخوته وهو أخوهم، فلم يعرفوه حتى قال لهم: (أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) فما تنكر هذه الأمة أن يكون الله عز وجل في وقت من الأوقات يريد أن يـستر حـجّته عـنهم، لقد كان يوسف يوماً ملك مصر، وكان بينه وبين والده مسيرة ثمانية عشر يوماً، فلو أراد الله تبارك وتعالى أن يعرّفه مكانه لقدر على ذلك، والله لقد سار يعقوب وولده عند البشارة في تسعة أيام إلى مصر، فما تنكر هذه الأمة أن يكون الله عز وجل يفعل بحجّته ما فعل بيوسف أن يكون يسير فيما بينهم ويمشي في أسواقهم وهم لا يعرفونه حتى يأذن الله عز وجل له أن يعرّفهم نفسه، كما أذن ليوسف عليه السلام حين قال لهم : ( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ * قالُوا أَ إِنَّكَ لأََنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي ) .(١)
الشبهة الثانية:
ما هي الحكمة من غياب الإمام، وكيف يتناسب الغياب مع أعمال وواجبات الإمامة، خاصة وأن الاثني عشرية يجعلون وجود الإمام لطفاً للعباد، وهل يجوز غياب اللطف عن الملطوف بهم؟!
والجواب على ذلك:
إن الحكمة من غيبته غائبة عنّا، وانكشاف وجه الحكمة سيتمّ عند ظهوره، وإن كان انكشاف جزء الحكمة أو بعضها هو لحفظ نفسه الشريفة من كيد الأعداء ومطاردتهم إيّاه، فيجب أن يحفظ وجوده الذي تتم ـ بهذا الوجود ـ حكمة الله من خلقه، في تفصيل يأتي في محله.
أما واجبات الإمامة فلا تعارضها غيبته عليه السلام ، فمجرد وجوده عليه السلام هو من ضمن واجبات الإمامة، كما أن معرفة الإمام ـ بغض النظر عن حضوره أو غيبته ـ تجعل المكلفين ضمن دائرة (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) ودخول الأفراد ضمن هذه الدائرة أو خروجهم عنها يتعلّق بمدى معرفتهم للإمام وعدم معرفتهم به، فإذن وجوده ومعرفة العباد به تكليف آخر يدخل ضمن تكاليف العباد.
على أن وجوده عليه السلام وجودٌ للحجة الإلهية التي لولاها لساخت الأرض بأهلها، فمجرد وجوده يُعدّ من أعظم الفوائد على العباد.
وكذلك الإمام يُعدُّ واسطة الفيض الإلهي حاضراً كان أو غائباً، فإن فيوضات الله تعالى لا تنزل على الأرض وأهلها إلا بواسطة، ولا واسطة لفيوضاته تعالى إلا الإمام، فوجوده فائدة لنزول الفيض، كما في ليلة القدر فإنها تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم على الإمام، ولولاه لما تم هذا التنزيل، فعلى من يتم النزول لو لا الإمام؟! وإلى هذا أشار الإمام الصادق عليه السلام في زيارته لجده الإمام الحسين عليه السلام: إلى أن قال: .. من أراد الله بدأ بكم، من أراد الله بدأ بكم، من أراد الله بدأ بكم، بكم يبيّن الله الكذب، وبكم يباعد اللهُ الزمانَ الكَلِب، وبكم يفتح الله وبكم يختم الله، وبكم يمحو الله ما يشاء، وبكم يثبت، وبكم يفكّ الذلّ من رقابنا، وبكم يدرك الله ترة كلّ مؤمن ومؤمنة تطلب، وبكم تنبت الأرض أشجارها، وبكم تخرج الأشجار أثمارها، وبكم تنزل السماء قطرها، وبكم يكشف الله الكرب، وبكم ينزل الله الغيث، وبكم تسيخ الأرض التي تحمل أبدانكم..(٢)
وكذلك الإمام يُعدُّ شاهداً على أعمال العباد كما في قوله تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(٣) فقد ثبت في محله أن الله تعالى يُثيب ويعاقب على الشهادة وهو مقتضى عدله، فلابد من شاهدٍ على أعمال العباد، وهذا الشاهد هو الحجة على الخلق غائباً كان أو حاضراً.
إضافةً إلى ذلك فإن وجود الإمام يبعث على طمأنة النفوس واستقرارها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند وجوده في المعركة، فهو وإن لم يشارك في قتال؛ إلا أن وجوده صلى الله عليه وآله وسلم طمأنة للنفوس وتقوية لعزيمة المقاتلين، كما أن شفقته عليه السلام على شيعته ورعايته لهم وحرصه عليهم يؤكّده دعاؤه لهم، ودعاء الإمام مستجاب عند الله تعالى، وهذا ما نص عليه في رسالته للشيخ المفيد بقوله عليه السلام: نحن وإن كنّا نائين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح، ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين فإنّا نُحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مُذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، نبذوا العهد المأخوذ وراء ظهرهم كأنهم لا يعلمون.
إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولو لا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتّقوا الله جل جلاله وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم.(٤)
وليس أدل على فائدة وجوده ـ حتى مع غيبته ـ ما ورد عن الصادق عليه السلام حينما سئل عن فائدة غيبته عليه السلام ، فقال بما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما سئل بمثل ذلك فقال: والذي بعثني بالنبوة إنّهم ليستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجللها سحاب.(٥)
أما كون وجوده لطف فإن اللطف هذا لا يتخلف في حال غيبته، وعدم استفادة المكلفين من هذا اللطف يرجع سببه فيهم، فهم اللذين تسبّبوا في إبعاد اللطف عنهم، فلطف الإمام موجود على أي حال، لكن ابتعاد الناس عن لطفه بسبب عدم تهيئة فرص الاستفادة من هذا اللطف، وليس الإمام سبباً في حرمان المكلفين من لطفه، كما أن معرفة الله لطفٌ، وعدم معرفة الكافر لهذا اللطف لا ينفي اللطف عن معرفته تعالى، وإنّما الكافر فوّت على نفسه فرصة لطف معرفة الله على نفسه.
إذن لا ينافي لطف الإمامة غيبة الإمام عليه السلام.
الهوامش:
ــــــــــــــــــــ
(١) كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: ١٤٥.
(٢) من لا يحضره الفقيه ٢: ٣٥٨ حديث ١٦١٤.
(٣) البقرة: ١٤٣.
(٤) الاحتجاج: ٤٩٧.
(٥) كمال الدين.