الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) تصحيح لحركيَّة الإنسانيَّة
الشيخ مجيد الصائغ
شاءت حكمة الله تعالى في أنْ يتكامل الفكر البشري في حركية متواصلة وتقدّم مستمر عبر القرون، وبمشاركة ذهنية الأجيال المتعاقبة على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وانتماءاتهم وتعدّد رؤاهم المعرفية....
وهكذا كان فتلاحمت صفوف المعرفة وتكثّرت الإنجازات العلمية حتّى قُعِّدت فأُسِّست القواعد، واكتشفت القوانين ووضعت النظريات في جميع مجالات العلوم الإنسانية والمعرفة والأدب والفنون... وعلى الرغم من التطور الفكري والتقدّم العلمي المطّرد فمن المؤكد تحقّق أمرين رئيسين:
الأول: إنّ ما اكتشفه الإنسان بفكرة ونتاج علمه في جميع صنوف المعرفة ومجالات الحياة لا يلبّي جميع متطلّبات الإنسان فرداً ومجتمعاً وفي جميع المجالات، قال تعالى: ﴿وَما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَليلاً﴾، والدليل على حاجة الفرد والمجتمع إلى المزيد من العلوم والمعارف في كل زمان ومكان.
الثاني: إنّ البشرية لن تنعم بالمعطيات العلمية إلّا قليلا لأنّ الإنسان ينقاد إلى شهواته وغرائزه وميوله ورغباته، فمثلاً المعطيات العلمية تحظر على الإنسان التجاوز على الطبيعة وعلى البيئة، وتحظر عليه القيام ببعض الأعمال كالعمليات التي تلوّث الجو وتطلق الاشعاعات الخطيرة والغازات السامة، ولكن الإنسان اليوم يصرُّ على ممارساته رغم علمه بالنهي العلمي عنها. وذلك نتيجة لعدم إيمانه وعدم شعوره بالمسؤولية.
أمّا في دولة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) فإنّه سوف يخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم بآليات منها:
أولاً: يكمل لهم جميع النواقص في علومهم ومعارفهم وفنونهم وآدابهم في جميع المجالات.
فإنّ ما توصَّل إليه الإنسان في هذا القرن الذي نعيشه، ويعتبره علماً، هو ناقص في نظر الإمام (عجّل الله فرجه) بلحاظ ما هو مخزون لديه (عجّل الله فرجه)، وعندما يخرج يكمل ما توصّل إليه البشر، ويأتي بعلم جديد لم تصل إليه البشرية في عقولها المحدودة.
إنّ ما يأتي به الإمام (عجّل الله فرجه) لا يمكن أنْ يبلغه الفكر الإنساني المادي، وإنَّه (عجّل الله فرجه) يرتقي بالعالم إلى أوج العلم والمعرفة والتقدّم التكنولوجي المعاصر، والدليل على ذلك ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:
(العلم سبعة وعشرون حرفاً فجميع ما جاءت به الرسل حرفان، فلم يعرف الناس حتّى اليوم غير الحرفين، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفاً اليوم غير الحرفين، فبثّها في الناس، وضمَّ إليها الحرفين، حتّى يبثّها سبعة وعشرين حرفاً)، وهناك رواية أخرى مضمونها: (إذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم) وهذا يعني في الاصطلاح المعاصر حركة تغيير ثقافي وعلمي، ترتقي بالعقول والقلوب إلى مدارج المعرفة والتقدّم.
والذي يستفاد من خلال هذه الأدلة أنّ حركة الإمام (عجّل الله فرجه) التغيرية سوف تصل في تطوّرها إلى أوجها، والإمام (عجّل الله فرجه) بدوره الرائد والقيادي يمثّل الرسالة الإلهية الخاتمة.
ولا توجد رسالة بعد الإسلام إلّا ما يدّعيه ويبشّر به الغرب باسم الديمقراطية والتقدّم المدني الغربي، فالغرب اليوم يبشّر بنظريات شمولية كبرى ومطلقة ويقول: أنا أُمثل الأمّة الشاهدة على العالم وليس أنتم، وأنا أُمثّل الأمّة القيّمة على العالم. ودعاة الديمقراطية الغربية يقولون: نحن نمثّل الحضارة الخاتمة والرسالة الخاتمة وليس الإسلام وهذه العقيدة على خلاف الرواية الإسلامية تماماً، فإنّ الأمّة الإسلامية هي الأمّة الشاهدة على العالم، والحضارة الإسلامية هي نهاية الحضارات، وليست رسالة رؤساء الغرب، وهي الحركة المصحّحة للحركية الإنسانية في العالم، إنما هو الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) من ولد فاطمة (عليها السلام) الذي يكمل مسيرة الرسالة الإلهية ويختمها على العالم عموماً، وعلى يد شيعة أهل البيت (عليهم السلام) خصوصاً.
ولا بأس هنا بذكر النظرية الشيوعية وما هو وجه الإصلاح فيها. تقول هذه النظرية: إنه ستطبّق العدالة على الأرض وذلك على يد الطبقة العاملة حينما تطيح بالطبقة البرجوازية، وسيحكم العمّال، حينئذٍ، ويتمُّ الاستغناء عن الحكومة والدولة، وهذا يعني أنْ لا توجد دولة ولا يوجد رئيس وزراء، بل توجد يومئذٍ عملية إدارة شعبية وإدارة ذاتية. تسقط الدولة، إدارة شعبية ذاتية في مجتمع سعيد مملوء بالعدالة على يد الطبقة العاملة، ولكن لا مانع لدى النظرة الشيوعية من استخدام القتل لملايين الناس من أجل أنْ تحكم الطبقة العاملة ومع ذلك تقول - أي الشيوعية -: إنه في آخر الزمان سيتحقق مجتمع تسوده العدالة والمحبّة والأخوّة!
على كل حال، الصلاحُ العالمي والمجتمع السعيد الذي سيكون في آخر الزمان، هي فكرة موجودة في الأديان الوضعية والإلهية مع نقاط اختلاف كثيرة منها: فانّ الأديان الوضعية تعتمد في هذا التحليل على اجتهادات شخصية دون دليل علمي، بينما الأديان الإلهية تنطلق في ذلك من قرار إلهي، أي أنّ هذه المسيرة البشرية بقرار من الله تعالى ستنتهي إلى مجتمع سعيد ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، هذا القرار الإلهي موجود، بأنّ الحكم سيكون للمستضعفين في الأرض وقد أنبأت به الكتب الإلهية، ولو بقي التقدّم العلمي بدون إخبار إلهي غيبي فإنّه يملك دليلاً يتوصّل به إلى هذه النتيجة، فنحن نرى اليوم أنّه كلما زاد التقدم العلمي زادت المأساة والبؤس بسبب عدم الاستخدام الصحيح لهذا التقدّم العلمي.
ثانياً: يهذّب نفوسهم ويطهّرهم ويزكّيهم من الأدران والموبقات والأرجاس والأنجاس حتّى تصفو نفوسهم وتطهر قلوبهم وتسمو أرواحهم، فيمتثلون أوامره ويطبّقون تعاليمه ويلتزمون بوصاياه، فلا يحصل منهم تجاوز ولا تعدٍّ، وبذلك تحقّق سعادتهم. ولا شكّ أنّ في ذلك تصحيح من الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لحركية الفكر البشري برفع الأغلاط ودفع الشبهات وسدّ النواقص، وتصحيح لحركية النفس الإنسانية في تقلباتها ومسيرتها الحياتية وذلك بتطهيرها وتسديدها.
ولا شكّ أنّ ذلك أفضل وأتمّ ما يمكن أنْ يصل إليه الإنسان بحركته الفكرية وأرقى ما يمكن أنْ يحقّقه من معارف وعلوم وفنون وآداب.
ومن المعلوم أنّ تطهير النفس لغة: تنزيهها عن الأدناس والنقائص الرذائل وكل ما يشين ويعيب.
وفي الاصطلاح: تهذيب النفس تربيتها، وذلك بتنزيهها عن الأدناس والأرجاس، وتخليصها من أدرانها وانتشالها من أوحال الشهوات وعتقها من أغلال الهوى، وإبعادها عن سبل الشيطان ووضعها على الصراط المستقيم الذي بيَّنه الله تعالى لها، وتمسكها بحبله المتين. والحذر كل الحذر من وسوسته وتسويلاته وإغوائه وعدم الوقوع في حبائله ومجانبة وخدعه وغروره.
ولا بدَّ من ترويض النفس على رضا الله وعدم الالتزام بطاعة الله وصولاً إلى الكمال الإنساني المنشود والنعيم والمقيم.
لأنَّ الثبات على المبدأ والعقيدة يشكّلان الهيكل الإيماني الصحيح للوصول إلى ساحة القرب من الباري، والتمتّع في ثناء لطفه ورحمته هو مسلك الأنبياء والأولياء والصالحين.
وإذا خرج (عجّل الله فرجه) فهو يؤكد على هذه التربية وينمّيها ويصقل النفوس التي تحتاج إلى المعالجة لتكون النفوس الإنسانية في ظهوره المبارك نفوساً لا سقم فيها، ويكون الإنسان بعيداً عن أنانيته وغروره في مستوى تفكيره وعلاقاته بالآخرين، بل يكون صاحب رسالة هدفها الوصول والخروج إلى سماء الفضيلة والكمال الإنساني المنشود.