دولة المهدي المنتظر عليه السلام
تأليف: الشيخ إبراهيم الأنصاري البحراني
الفهرس
مقدمة: الثقل الكبير والثقل الأكبر
الفصل الأوَّل: لولاك لما خلقت آدم
العلاقة بين الإنسان والملائكة
أوّل ما خلق الله
الفصل الثاني: السجود لآدم عليه السلام
الفصل الثالث: العهد الإلهي لآدم عليه السلام
الفصل الرابع: صفات جنَّة آدم عليه السلام
الفصل الخامس: الهبوط
نتيجة الهبوط
قبول توبة آدم لا ينافي هبوطه
متاع الغرور
النفس الأمّارة
الفصل السادس: علل الأحكام والتكاليف الإلهيَّة
فلسفة بعث الرّسل
الغاية من الخلق؟
خلق الإنسان
الرجوع إلى الربّ
خُلقنا للبقاء
الرؤية الكونية ورحمة الربّ
العبودية الاجتماعية
ماذا تعني قربةً إلى الله
لقاء الله
اللقاء في القرآن والسنَّة
لذَة الوصال ونار الفراق
لقاء الله في القصيدة العرفانيَّة للإمام
الرجوع إلى الله
الفصل السابع: الغاية من التشريع
العلَّة الغائيَّة
الغاية من الدين
الرجوع إلى الله
سبيل الوصول إلى تلك الدولة المباركة
الفصل الثامن: الذِّكر
ذكر أهل البيت هو ذكر الله
ذكرهم أجر الرسالة
أهمية إحياء ذكرهم عليهم السلام
الفصل التاسع: يوم الوقت المعلوم
الأجل المُسمَّى
النتيجة: دولة الإمام المهدي عجَّل الله تعالى فرجه هي جنَّة آدم عليه السلام
بعض صفات دولة المهدي عليه السلام
وصول الإنسان إلى كماله المعنوي
مشاهدة المؤمنين بعضهم بعضاً
التوسعة الزمانيَّة
ظهور الملائكة والجن للناس
ذهاب العاهة وتقوية القلوب
نزول البركات والتآلف بين الحيوانات
المعجزات والكرامات
الخاتمة: أفضل العبادة انتظار الفَرج
معنى الانتظار في اللغة والاصطلاح
أهميَّة انتظار الفرج
(أفضل الأعمال)
السرُّ في أهميَّة الانتظار
القرب إلى الله ميزان الأفضلية
الرجاء بالله
أفضل الجهاد
الانتظار وجانباه الإيجابي والسلبي
الانتظار والرفض
الرفض من العبادات الاجتماعية
صفات المنتظِر
صفاته الاجتماعية
الرفض الاجتماعي
الصبر
الأول: الصبر
الثاني: التصابر
الانتظار والرجاء
دولة المهدي دولة النور
مقدمة: الثقل الكبير والثقل الأكبر
القرآن الكريم هو الثقل الأكبر الذي أنزله الله تعالى بما فيه من العظمة والمنزلة على قلب رسوله محَّمدٍ صلى الله عليه وآله وسلَّم ثمَّ نزَّله على هيئة المُصحف الشريف المشتمل على الحروف والكلمات بلسان عربي مبين ليكون هدىً لعامَّة الناس العربيِّ وغير العربي.
فمن كانت لديه أدنى معرفة للغة العربيَّة فلا محالة سوف يُدرك جانباً من ظاهر هذا الكتاب قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(١) وهذا الخطاب يشمل العرب وغيرهم على السواء، نعم معرفةُ الجوانب الظاهريّة الدقيقة تتوقَّف على الفهم الشامل للّغة العربية وأسرارها.
ومع ذلك هناك العدد الكبير من الآيات الكريمة غير مفهومة لا من حيث المفهوم والمعنى ولا من حيث المصداق والتطبيق، وليست هناك أيُّة وسيلة عادية يمكننا من خلالها الإطِّلاع على تلك الآيات والوصول إلى محتواها الواقعي.
فيا ترى كيف نحلُّ هذه المشكلة؟
وهل هناك من يُطْمأنُّ به كي يُدلَّنا على محتواها وينبئنا عن تفسيرها أو تأويلها؟
أهل البيت هم مفسرُّوا القرآن
إنَّ القرآن الكريم بنفسه قد عرَّف لنا الوسيلة ورسم لنا السبيل لفهم تلك الآيات والوصول إلى حقيقتها، قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ)(٢).
قال آية الله العظمى السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه (في مبحث مسِّ القرآن الكريم):
(ثم إن قوله عزَّ من قائل: لا يمسه إلا المُطهَّرون لا يستفاد منه حكم المسألة فضلاً أن يدلَّ عليه بالأولوية، وذلك: فلأنَّ المطهَّر غيرُ المتطهِّر..فالمطهَّر عبارةٌ عمَّن طهَّره الله سبحانه من الزلل والخطأ وأذهب عنه كلَّ رجس، والمذكور في الآية المباركة هو المطهَّر دون المتطهِّر ففيها إشارة إلى قوله سبحانه: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا فمعنى الآية على هذا أن مس الكتاب – الذي هو كناية عن دركه بما له من البواطن – لا يتيسَّرُ لغير الأئمة المطهرين فإنَّ غير من طهره الله سبحانه لا يصل من الكتاب إلا إلى ظواهره) (التنقيح في شرح العروة الوثقى ج ٣ ص٣١٥) هذا وقال الإمام قدّس سرُّه: (واعلم أنّ للكتاب التدويني الإلهي بطوناً سبعة باعتبارٍ وسبعين بطناً بوجهٍ لا يعلمها إلا اللّه والراسخون في العلم ولا يمسُّها إلاّ المطهّرون من الأحداث المعنوية والأخلاق الرذيلة السيئة والمتحلُّون بالفضائل العلمية والعمليَّة، وكلُّ من كان تنزّهه وتقدّسه أكثر كان تجلِّي القرآن عليه أكثر وحظُّه من حقائقه أَوفر)(٣).
وقال:
(فإنَّ للقرآن منازلَ ومراحلَ وظواهرَ وبواطنَ أدناها ما يكون في قشور الألفاظ وقبور التعيّنات كما ورد إنَّ للقرآن ظهراً وبطناً وحدّاً ومطلعاً، وهذا المنزل الأدنى رزقُ المسجونين في ظلمات عالم الطبيعة، ولا يمسُّ سائرَ مراتبه إلا المطهّرون عن أرجاس عالم الطبيعة وحَدَثه، والمتوضّئون بماء الحياة من العيون الصافية والمتوسّلون بأذيال أهل بيت العصمة والطهارة والمتَّصلون بالشجرة المباركة الميمونة، والمتمسكون بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والحبل المتين الذي لا نقض له حتى لا يكون تأويله أو تفسيره بالرأي، ومن قِبَل نفسه فإنَّه لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)(٤).
ومن هنا نعرف أهميَّةَ ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: (إنِّي تارك فيكم الثقلين كتابَ الله وعترتِي أهلَ بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً وأنَّهما لن يفترقا حتّى يَردا عليَّ الحوض)(٥).
والحديث من أبرز الأحاديث المتواترة لفظاً لدى الفريقين وقد صدر عنه صلى الله عليه وآله هذا النصّ في مواطن عديدة، ولو تأمَّلنا في مضمونه لاستنتجنا منها أموراً كثيرة.
نشير إلى ما ذكره الإمام الزرقاني المالكي حيث قال:
١ - أنَّهم عليهم السلام عِدل كتاب الله.
٢ - أنَّ الهداية منحصرة بالتمسك بهما.
٣ - أنَّهم هم المفسرون والواقفون على أسرار القرآن ورموزه.
٤ - وجود من يكون أهلاً للتمسك بالقرآن من عترته في كل زمن إلى قيام الساعة حتّى يتوجَّه الحثُّ المذكور على التمسك به كما أنَّ الكتاب كذلك (الإمام الزرقاني المالكي يحكي في شرح المواهب ج٧ص٨ عن السمهودي نقله العلاّمة الأميني في الغدير).
أقول: مضافاً إلى ذلك فالمقصود من لن يفترقا ليس في عالم الدنيا فحسب بل في جميع العوالم من المُلك (الدنيا) والملكوت (البرزخ) والجبروت (الآخرة) حتى يردا عليَّ الحوض.
أهل البيت وتفسير القرآن الكريم
التفاسير التي نقلت عن أئمتنا عليهم السلام على نحوين رئيسين:
الأوَّل: ما يبيِّنونه عليهم السلام من معانٍ للآية من غير أن يكونوا بصدد إقناعنا نحن كقولهم في تفسير ما كنتم تكتمون:
(عن الإمام السجاد عليه السلام:...وما كنتم تكتمون ظنَنَّا أنّ لا يخلق الله خلقاً أكرم عليه منّا)(٦).
وفي هذه الموارد يأتي دور التعبُّد بكلامهم عليهم السلام وقبول ما صدر منهم حيث أنَّ كلامهم هو كلام الله.
الثاني: وهو الأكثر وذلك من خلال الاستشهاد بآياتٍ أخر متَّصلة بالآية المطلوب تفسيرها أو منفصلة عنها تكون دليلاً على معناها وهذا من تفسير القرآن بالقرآن عن الأئمَّة عليهم السلام.
ولهذا النوع من التفسير شواهدُ عديدةٌ في كلامهم عليهم السلام سوف تُواجه مواردَ كثيرةً منها ضمن البحث، ولا بأس بذكر أحد النماذج البينَّة وهي قضية ابن أبي داود حين رجع من عند المعتصم وهو مُغتَم وكان يتمنَّى أنه لم يكُ حياً حيث أقرَّ رجلٌ على نفسه بالسرقة وأراد من الخليفة أن يُطهِّره بإقامة الحدِّ عليه فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وكلٌّ قد أفتى بما يراه وكان أبو داود من جملة الفقهاء الذين أفتَوا بغير علمٍ (فالتفت الخليفة إلى محمَّد بن عليٍّ عليه السلام فقال: ما تقول في هذا، أبا جعفر فقال: قد تكلم القوم فيه، قال دعني ممّا تكلَّموا به، أيُّ شيءٍ عندك قال أعفني عن هذا قال أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه فقال أما إذا أقسمت عليَّ بالله إنِّي أقول: أنَّهم أخطئوا فيه السنة فإنَّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف قال: وما الحجَّة في ذلك قال قول رسول الله صلى الله عليه وآله السجود على سبعة أعضاء الوجه واليدين والركبتين والرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقال الله تبارك وتعالى (وأن المساجد لله)(٧) يعنى به هذا الأعضاء السبعة التي يُسجد عليها فلا تدعوا مع الله أحداً وما كان لله لم يُقطع. قال: فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف)(٨).
فليس بإمكاننا معرفة حقيقة القرآن إلاّ بالرجوع إليهم عليهم السلام حيث أنَّه لا يَعرف القرآن إلاّ من خوطب به، فنقول وبصريح الكلمة:
إنَّ القرآن يساوي أهلَ البيت وأهلُ البيت يساوون القرآن لا ولن يفترقا أبداً.
فلو واجهت في خلال البحث أنَّنا نُربط الآيات كلَّها بأهل البيت فلا تتعجَّبْ من ذلك، فهُم القرآن الناطق ولا يُمكن فهم القرآن دونهم فكلَّما سلك الإنسان طريقاً مهما طال وبَعُد فلابدَّ أن يصل إليهم ويلتقي بهم من قبل أن يضِّل ويخزى.
الفصل الأوَّل: لولاك لما خلقت آدم
إنَّ قصَّة خلق آدم طويلة إلاّ أنَّنا نحاول الإشارة إلى بعض الجوانب المهمَّة منها، قال تعالى:
(وإذ قال ربُّك للملائكةِ إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة)(٩)
فهاهنا يُذكِّر الله سبحانه نبيَّنا تلك القضيَّةَ التِّي حدثت عند خلق آدم فيقول وإذ أي أُذكر ذلك الحدث، والظرف إذ منصوب بإضمار أذكر(١٠).
فيستفاد من ذلك أنَّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان قد شهد تلك المشاهد من بداية الخلق حيث يقول سبحانه:
(وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)
وبطبيعة الحال كان صلوات الله عليه يعلم تفصيلاً وعلى مستوى الجزئيات تلك القضايا والحوادث التي مرَّت من بداية خلق آدم وما حدث بعد ذلك ومهمّة القرآن ليست هي إلاّ تذكيره عليه السلام بها، ومن هنا نشاهد أنَّه سبحانه يقول:
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)(١١).
ولا يخفى الفرق بين الغفلة وبين الجهل فهو صلوات الله عليه لم يكن جاهلاً بتلك القصص بل كان عالماً بها والقرآن إنَّما يُذكِّره بما كان يعلمه وغفل عنه. وقد ذُكرت كلمة إذ بهذا المعنى في أكثر من مائتي موردٍ من القرآن، كما أنَّه قد صرَّح سبحانه بقوله (واذكر) في موارد عشرة وهي:
١ - (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا)(١٢).
٢ - (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا)(١٣).
٣ - (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا)(١٤).
٤ - (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا)(١٥).
٥ - (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا)(١٦).
٦ - (..وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(١٧).
٧ - (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ)(١٨).
٨ - (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ)(١٩).
٩ - (واذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنْ الأَخْيَارِ)(٢٠).
١٠ - (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ..)(٢١).
فإذاً النبيُّ صلى الله عليه وآله كان عالماً بتأريخ السابقين من الأنبياء والأولياء وغيرهم وذلك لعلمه بالغيب وهذه الحقيقة من عقائدنا المسلَّمة الثابتة عقلاً ونقلاً وليس هنا موضع الحديث عنها.
على أنهم أوَّل ما خلق الله كما سيتضح لك فيما بعد وفي الزيارة الجامعة المنقولة في عيون أخبار الرضا عليه السلام مسنداً عن الإمام النقي عليه السلام:
(خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه مُحدقين حتَّى منَّ علينا بكم فجعلكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه)(٢٢).
فهم إذاً قد شاهدوا جميع ما خلق الله من الموجودات وكانوا قد اطَّلعوا عليها.
العلاقة بين الإنسان والملائكة
ينبغي لنا أن نبيِّن مدى العلاقة والارتباط المتواجد بين الملائكة وبيننا نحن البشر، فهناك ترابط حيوي له دور في حركة الإنسان الرسالي الذي ينطلق من مبدأ العقل والقلب، فكما أنَّ الاعتقاد بالتوحيد والنبوة والإمامة وسائر الأصول له تأثير في تعامل الإنسان وارتباطه مع ما حولَه من الموجودات كذلك الاعتقاد بالملائكة أيضاً له ذلك الدور الذي يسيِّره نحو الكمال المطلق.
ومن هذا المنطلق صار الإيمان بالملائكة من جملة الأمور العقائديَّة التِّي قد آمن بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وآمن بها كلّ المؤمنين.
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(٢٣).
وفي موطن آخر نشاهد أنَّ الله سبحانه حكم علي الكافرين بالملائكةِ، بالضلال البعيد فيقول:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا)(٢٤).
وأما دور الملائكة ومسئولياتهم الخطيرة تجاه الإنسان فهي كثيرة والملاحظ في القرآن الكريم أنَّ من أهمِّ أدوار الملائكة هو الصلاة المستمرة على النبيِّ تبعاً لصلاة الله تعالى عليه:
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).(٢٥)
وأيضاً صلاتهم علي المؤمنين
(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)(٢٦).
ولابدّ أن نعلم أنَّ هناك مرحلة أهمّ من ذلك وهي التعرُّف على الملائكة الموكَّلةِ علينا خاصَّة لأنه لا محالة سوف نواجههم ويواجهوننا بل نصحبهم ويصحبوننا في كلٍ من عالمي البرزخ والآخرة.
ففي تفسير الإمام: (قال عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم … فإنَّ كلَّ واحدٍ منكم معه ملكٌ عن يمينه يكتب حسناته وملكٌ عن يساره يكتب سيئاته…)(٢٧).
كلُّ ذلك أدَّى إلى طرح موضوع خلقة آدم - وخلافة بنيه في الأرض - على الملائكة فقال تعالى لهم:
(..إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..)(٢٨).
والظاهر أنّه ليس المراد أنّ آدم نفسَه يكون خليفة في الأرض بل كان خلق آدم لأجل تلك الخلافة التّي سوف يمنحها ويجعلها سبحانه لبعضٍ من وُلده وهم الخُلَّص من عباده وهم الذين يجدر أن يطلق عليهم الإنسانُ الكامل بمعنى الكلمة.
وبالطبع هم نور واحد وحقيقة فاردة وإن تكثّروا في عالم الطبيعة ومن هنا نشاهد أنّه سبحانه لم يذكر الخليفة بصورة الجمع فلم يقل خلائف أو خلفاء بل جعلها مفردة.
الأمانة الإلهيَّة
إنَّ الخلافة الإلهية تعني النيابة عنه تعالى في جميع شئونه وصفاته الجمالية والجلالية وهو أمر عظيم بل هو الأمر كما أنَّ الأوصياء هم أولوا الأمر ولعلها هي الأمانة الإلهية التيِّ يتطرق إليها سبحانه في قوله:
(إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً)(٢٩).
وحيث أنَّ الإنسان قد حمل تلك الأمانة فلا بدَّ إذاً من أن يُمدح ويُحمد على ذلك لا أن يُذمّ ويُعاتب، وبالفعل قد مدحَه الله سبحانه بأنَّه كان ظلوماً جهولاً، فانظر إلى لطافة هذا التعبير وتمعَّن في محتواه فإنَّ الإنسان كان من أوّل الأمر ظلوماً بالنسبة إلى ما سوى الله سبحانه، وجهولاً بجميع الموجودات سوى بارئه تعالى، فلم يكن يطلب إلاّ الله ولم يكن يعرف إلاّ المطلق.
(من بخال لبت أي دوست كرفتار شدم)
فالخال كناية عن وحدة الذات المطلقة وهو مبدأ ومنتهى الكثرة الاعتبارية وهو الهوية الغيبية المحتجبة عن الإدراك والشعور.
هكذا فسَّر إمامُنا قدِّس سرُّه هذه الآية المباركة وما أعظمه من تفسير!! وقال في بعض أشعاره:
(عارفان رخ تو جمله ظلوم اند وجهول....اين ظلومي وجهولي، سر وسوداي من است)
أي عرفاء وجهك كلهم ظلومون وجهولون.... هذا الظلوم والجهول من أعظم ما يختلج في خاطري. قال الإمام قدس الله روحه:
(وهاتان الصفتان (أعني الظلومية والجهوليّة) هما أحسنُ صفتين اتصف بهما الإنسان من بين سائر صفاته)
أقول: إنَّ هذا التفسير نابعٌ من ذلك الفكر العرفاني الذي يبني عليه إمامُنا سائَر أفكارِه المميَّزة والذي هو أهم أساس لرؤيتِه العرفانيَّة وأفكاره النورانيَّة بل حتّى مواقفه الثورية ضد الطغاة المستكبرين.
وهذا الأساس هو (العشق بالكمال المطلق) (الأربعون حديثا، الحديث١١ ص ١٧٩ الى ١٨٧ وكتاب شرح دعاء السحر) والحديث عن هذا الموضوع ذو جوانب عديدة وشُعب كثيرة لعلِّي وُفقت لإفراد رسالة عنه إنشاء الله تعالى.
هذا:
الملائكة لم تتوفر لديها أرضيَّة الخلافة وكذا سائر الموجودات حيث أن الملائكة مظاهر جمال الله ليس إلا كما أنّ هناك موجودات كثيرة وبالأخص في جنس الحيوانات هي مظاهر الجلال الإلهي.
الإنسان مظهر الجمال والجلال
أماّ الإنسان فهو مظهر للجمال والجلال معاً وذلك لوجود الجانبين فيه ومن هنا نعلم السرّ في التعبير القرآني حيث يقول سبحانه مخاطباً لإبليس:
(.. مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..)(٣٠).
دون الملائكة ولاختصاصه بالعشق دون الجن.
قال الإمام قدِّس سرُّه: (فهو تعالى بحسب مقام الإلهية مستجمع للصفات المتقابلة كالرحمة والغضب، والبطون والظهور، والأوّليَّة والآخريّة، والسخط والرضا، وخليفته لقربه إليه ودنّوه بعالم الوحدة والبساطة مخلوق بيدي اللطف والقهر وهو مستجمع للصفات المتقابلة كحضرة المستخلف عنه. ولهذا اعترض على إبليس بقوله تعالى: (.. مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..)(٣١). مع أنّك مخلوق بيد واحدة. فكل صفة متعلق باللطف فهي صفة الجمال، وكل ما يتعلق بالقهر فهو من صفة الجلال. فظهور العالم ونورانيّته وبهائه من الجمال وانقهاره تحت سطوع نوره وسلطة كبريائه من الجلال وظهور الجلال بالجمال واختفاء الجمال بالجلال جمالك في كل الحقايق ساير وليس له إلاّ جلالك ساتر)(٣٢).
ثمَّ: إنَّ إمامنا له بيان آخر أدقّ مما ذكرناه قد بيَّنه في كتابه مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية
قال: (نور: لعلّ الأمانة المعروضة على السموات والأرض والجبال التي أبَينَ عن حملها وحمَلَها الإنسان الظلومُ الجهول هي هذا المقام الإطلاقي فإن السموات والأرضيين وما فيهن حدودات مقيدات حتى الأرواح الكلية ومن شأن المقيَّد أن يأبى عن الحقيقة الإطلاقية. والأمانة هي ظلّ الله المطلق وظّل المطلق مطلق يأبى كل متعين عن حملها وأما الإنسان بمقام الظلوميّة التي هي التجاوز عن قاطبة الحدودات والتخطي عن كافّة التعيَينات واللاَّ مقامى المشار إليه بقوله تعالى شأنه على ما قيل: (يا أهل يثرب لا مقام لكم) والجهولية التي هي الفناء عن الفناء قابل لحملها فحملها بحقيقتها الإطلاقية حين وصوله إلى مقام قاب قوسين وتفكَر في قوله تعالى: (أو أدنى) واطفِ السراج فقد طلع الصبح)(٣٣).
أقول:
إنَّ الفناء عن الفناء من المراتب الراقية للإنسان حيث لا يتوجَّه الإنسان إلى نفسِه أصلاً (بل هو فانٍ في الله) ولا يتوجَّه إلى عدم توجُّهه وفنائه (لأنَّ التوجُّه إلى الفناء هو نوعٌ من الأنانيَّة).
قال مولانا جلال الدين الرومي:
(در خدا كُم شَو كمال اينست * * * وبس كُم شدن كُم كُن وصال اينست)
افن في الله فهو الكمال ليس إلاّ وافن في فنائك فهو الوصال ليس إلاّ.
ماذا يعني (ربُّك)؟
ولنرجع إلى الآية المباركة فنقول إِنَّ إضافة الربّ إلى ضمير الكاف في قوله (ربّك) تشير إلى أنّ القضية راجعة إلى شخص النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فالله بما أنه ربّ النبي قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة، فالخلافة إذاً لها مساس جذري بشخصيّة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم.
حديث الملائكة
ثمَّ إنَّ لحن كلام الملائكة حيث قالوا:
(..أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ..)(٣٤).
وإن كان الظاهر منه الاحتجاج أو التعجُب إلاّ أنَّهم لم يكونوا بصدد ذلك كيف وهم
(..عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)(٣٥).
فماذا كانوا يهدفون من قولهم هذا؟ إنَّهم كانوا يريدون أن يطَّلعوا على حقيقة الأمر في مسألة الخلافة الإلهية فكانوا لا يرون عملاً أعظم ممّا يمارسونه هُم من التسبيح بحمده تعالى والتقديس غافلين عن مرحلةٍ أخرى والتِّي هي أعظم من التسبيح والتقديس وهي العبوديَّة التِّي هي جوهرة كنهها الربوبيَّة! ومن هنا كانوا يتسائلون حول هذه الخلافة؟ وكانوا يتوقعون الوصول إلى مستوى الاستخلاف كما في الحديث:
(عن الصادق عليه السلام... يا ربِّ إن كنت ولابدَّ جاعلاً في أرضك خليفةً فاجعله منّا)(٣٦).
ومن ناحية أخرى كانت الملائكة قد اطلعت ومن قبل أن يُخلق الإنسان أنَّه بخروجه من الجنَّة سوف يرتكب الجرائم البشعة من الإفساد في الأرض بل سفك الدماء حيث يقولون:
(..أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ..)(٣٧).
أما كيف علموا ذلك فلسنا بصدد الحديث عنه هنا - فبناءً على ذلك يكون استفهام الملائكة أمراً طبيعيّاً وفي محلِّه.
إقناع الملائكة
وكيف أجابهم الله جلَّ شأنه؟
(..قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(٣٨).
فلم يُنكر سبحانه تلك الأمور أعني الإفساد في الأرض وسفك الدماء كظاهرة سوف تصدر من هذا البشر بل الظاهر أنَّه قد قرَّرها، ولكنه سبحانه بيَّن للملائكة أنَّهم جاهلون بما يعلمه هو.
وهاهنا يتوجَّه سؤال وهو: ماذا كان يعلم الله سبحانه وتعالى؟ هذا ما سيتبيَّن من خلال البحث. قال سبحانه:
(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا..)(٣٩).
هناك ارتباط وثيق بين الإسم والمُسمّى بحيث كلما يذكر الاسم وكأنَّ المُسمى قد حضر لدى السامع، لأنَّ الاسم ليس هو إلاّ مرآة للمسمَّى ولهذا قالوا أنَّ وجود الاسم هو وجود المسمى أو بالأحرى تنزيل للمسمّى وتجلٍّ له ولهذا نشاهد انتقال الجمال والقبح من المسمَّى إلى الاسم.
وعلى ضوء ذلك أقول:
إنَّ الله سبحانه قد علَّم آدم الأسماء كلها وذلك بدليل الآية المباركة حيث التأكيد بـ (كلِّها) مضافاً إلى الجمع المحلَّى باللاّم الدال على العموم، وهذه الأسماء كلَّها كاشفة عن المُسمَّيات العينية الخارجية فهي كانت حقائق لم يتيسَّر للملائكة الوصولُ إليها ولم تعرف الملائكة أسمائها من قبل أن ينبأهم آدم بأهمِّها التّي كانت مستوعبة ومخيِّمة على سائر الأسماء كما سنبيِّن ذلك. والأحاديث المبيِّنة لتلك الأسماء تتلخَّص في طوائف ثلاثة:
الأوَّل:
(عن الفضل بن عباس عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن قول الله عز وجل وعلم آدم الأسماء كلها ما هي؟ قال: أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض)(٤٠).
الثاني:
(عن أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن قول الله وعلم آدم الأسماء كلها ماذا علمه قال الأرضيين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال وهذا البساط مما علمه)(٤١).
الثالث:
(عن داود بن سرحان العطار قال كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فدعا بالخوان فتغدينا ثم جاءوا بالطشت والدست سنانه فقلت جعلت فداك قوله وعلم آدم الأسماء كلها الطست والدست سنانه منه فقال الفجاج والأودية وأهوى بيده كذا وكذا)(٤٢).
أسمائكم في الأسماء
ولكن حيث أنّه لم تكن لجميع هذه الأسماء علاقة بمقام الخلافة الإلهيّة نجد أنَّه تعالى يعرض قسما مميَّزاً منها خاصَّة أعني مسمَّياتها ومصاديقها وبطبيعة الحال كانت لتلك المُسميّات علاقةً بالمهمِّ أعني الخلافة التِّي كان سبحانه بصدد إفهامها للملائكة لغرض توجيه خلق آدم عليه السلام.
أنظُر إلى هذا التعبير وتأمّل في كلمة (ثم) في قوله تعالى (ثمَّ عرضَهم على الملائكة)(٤٣).
فإنها قد فصَّلتْ بين جميعِ الأسماء وبين التّي عُرضَتْ على الملائكة. وتأمَّل أيضاً في الضمير (هم) فإنَّه لو كانت الأسماء هي المعنيَّة والمعروضة عليهم دون المسمَّيات أو كانت تعني المسميات التِّي لا تمتلك التعقُّلَ لكان التعبير الصحيح هو (عَرضَها) لا (عَرضَهُم).
وأصرح من ذلك قوله تعالى: (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين)(٤٤).
فهل يحتمل من يعرف ألف باء اللغةِ العربيةِ أنَّ كلمة هؤلاء تعني الموجودات من الجبال والشعاب والأودية والنبات والشجر بأصنافها؟!.
أقول: بل إنَّما هي أسماء من سيَأتون على الأرض من ذريَّة آدم الذين هم محلّ الاحتجاج والنزاع وبوجود تلك الذرِّية يمكن تبرير خلق آدم عليه السلام وجعله خليفة في الأرض، وبهم تُجبَر جميعُ المفاسد التِّي سوف يرتكبها بعضُ أولاد آدم عليه السلام ولا يخفى أنَّ كلمة هؤلاء تدلُّ على حضورهم بعينهم آنذاك وهم بعرشه محدقين.
ولعلَّ قوله عليه السلام في الزيارة الجامعة الكبيرة وأسمائكم في الأسماء إشارة إلى هذه الحقيقة حيث كانت أسمائهم في الأسماء التِّي علَّمها الله آدم عليه السلام.
ثمَّ إنَّه على ما ذكرناه يمكننا معرفة ما تروم إليه الأحاديث المتظافرة في هذا المجال، ورعاية للاختصار نذكُر بعضها:
ذكر العلامة المجلسي رحمه الله في البحار عنواناً في مساواة علي عليه السلام مع آدم وإدريس ونوح عليهم السلام نقله عن كتاب مناقب آل أبي طالب، ومن جملة ما ذكر الروايةَ التالية:
(بإسناده عن على عليه السلام قال النبي صلى الله عليه وآله: يا على أنت بمنزله الكعبة تُؤتى ولا تأتي، آدم باع الجنة بحبّات حنطة فأُمر بالخروج منها قلنا اهبطوا منها جميعا وعليٌ اشترى الجنة بقرص فأُذن له بالدخول فيها وجزاهم بما صبروا جنة، علم آدم الأسماء كلها وكان اسم علي وأسماء أولاده عليه السلام فعلَّم اللهُ آدم أسماءهم)(٤٥).
وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي:
(عن أبي محمَّد العسكري عليه السلام.... فقال رسول الله وهل شرفت الملائكة إلا بحبِّها لمحمَّد وعليٍّ وقبولها لولايتهما انه لا أحد من محبِّي عليٍّ عليه السلام نظف قلبه من قذر الغش والدغل والغل ونجاسة الذنوب إلا كان أطهر وأفضل من الملائكة، وهل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم إلا لما كانوا قد وضعوه في نفوسهم إنه لا يصير في الدنيا خلق بعدهم إذا رفعوهم عنها إلا وهم يعنون أنفسهم أفضل منهم في الدين فضلا وأعلم بالله وبدينه علما، فأراد الله أن يعرفهم أنهم قد أخطئوا في ظنونهم واعتقاداتهم فخلق آدم وعلمه الأسماء كلَّها ثم عرضها عليهم فعجزوا عن معرفتها، فأمر آدم أن ينبئهم بها وعرفهم فضله في العلم عليهم، ثم أخرج من صلب آدم ذريَّة منهم الأنبياء والرسل والخيار من عباد الله أفضلهم محمَّد ثم آل محمَّد، ومن الخيار الفاضلين منهم أصحاب محمَّد وخيار أمه محمَّد، وعرف الملائكة بذلك أنهم أفضل من الملائكة إلى آخر الحديث...)(٤٦).
والرواية التالية المنقولة في الكافي خير شاهد على ذلك:
(عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن أبي جميلة عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أن الله مثَّل لي أمتي في الطين وعلمني أسماءهم كما علم آدم الأسماء كلها فمرَّ بى أصحاب الرايات فاستغفرت لعلي وشيعته أن ربى وعدني في شيعة علي خصلة، قيل يا رسول الله وما هي قال المغفرة لمن آمن منهم..)(٤٧).
أقول:
الظاهر أن قوله عليه السلام (علَّمني أسمائهم) ثم تشبيهه صلى الله عليه وآله هذا التعليم بتعليم آدم عليه السلام الأسماء كلّها يدلُّ على أنَّ الأسماء التِّي علمَّها الله آدم عليه السلام ليست هي أسماء الجمادات والنباتات والحيوانات فقط بل هي شاملة للإنسان أيضاً.
أوّل ما خلق الله
أقول: إنهم عليهم السلام أوَّل ما خلق الله ولأجلهم خُلِقت سائر الموجودات (لولاك لما خلقت الأفلاك) وأيضاً (لولاك لما خلقت آدم)(٤٨).
وهذه المسألة ثابتة عقلاً ونقلاً ففي الحديث: (عن جابر بن عبد الله قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أول شيء خلق الله تعالى ما هو؟ فقال نور نبيك يا جابر خلقَه الله ثم خلق منه كلَّ خير)(٤٩).
وقال مولى العارفين الإمام العظيم نوَّر اللهُ ضريحه في كتابه القيِّم مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية(٥٠):
(مطلَع: إن الأحاديث الواردة عن أصحاب الوحي والتنزيل في بدء خلقهم عليهم السلام وطينة أرواحهم وأنّ أول الخلق روح رسول الله وعليّ صلى الله عليهما وآلهما، وأرواحهم إشارة إلى تعين روحانيتهم التي هي المشيئة المطلقة والرحمة الواسعة تعيّناً عقليّاً لأنّه أول الظهور هو أرواحهم عليهم السلام، والتعبير بالخلق لا يناسب ذلك فإن مقام المشيئة لم يكن من الخلق في شيء بل هو الأمر المشار إليه بقوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر)، وأن يُطلق عليه الخلق أيضا كما ورد منهم "خلق الله الأشياء بالمشيئة والمشيئة بنفسها" وهذا الحديث الشريف أيضا من الأدلة على كون المشيئة المطلقة فوق التعيُّنات الخلقية من العقل وما دونه. ونحن نذكر رواية دالّة على تمام المقصود الذي أقمنا البرهان الذوقي عليه بحمد الله تيمّناً بذكره وتبرّكاً به في الكافي الشريف:
أحمد بن إدريس عن الحسين بن عبد الله الصغير عن محمد بن إبراهيم الجعفري عن أحمد بن على بن محمد بن عبد الله بن عمر بن على بن أبي طالب عليه السلام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أن الله كان إذ لا كان فخلق الكان والمكان? خلق نور الأنوار الذي نورت منه الأنوار وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار وهو النور الذي خلق منه محمداً وعليّاً، فلم يزالا نورين أولين إذ لا شيء كون قبلهما فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبد الله وأبي طالب عليهما السلام)(٥١).
توضيح كلام الإمام (قده)
إنَّ الله شاء فخلق، فأول ما صدر منه تعالى هو المشيئة وبها خلق الأشياء ولهذا سميت الأشياءُ أشياءً لأنها تجلٍ للمشيئة الإلهية فكيف ظهرت تلك المشيئة بنفسها؟ وفي ماذا ظهرت؟ وبطبيعة الحال ذلك المظهر ليس هو شيئاً بل هو أعلى من مستوى الشيء وهو ما يُطلق عليه بالأمر كما تشير إليه الآية المباركة (ألا له الخلق والأمر)(٥٢) ومن خلاله خُلقت الأشياء فأصبح هو واسطة للأشياء ورابطة بينها وبين الله تعالى.
فلا مشيئة قبل المشيئة حيث لا يمكن القول بأنَّ الله شاء أن يشاء أن يخلق الأشياء لأنَّه سوف يستمِّر هذا السؤال بالنسبة إلى المشيئة الأولى فربَّ قائل يقول: هل شاء أن يشاء أن يشاء أن يخلق الأشياء؟
وهذا السؤال لا ينتهي فيجرَّ الإنسان إلى ما لا نهاية لها من الأسئلة فيتورَّط في التسلسل الباطل فلا بدَّ إذاً أن يتوقَّف.
عالم المشيئة ليس هو من عالم الخلق بل هو من عالم الأمر والمشيئة لم تُخلق كخلق الأشياء الأخرى، بل لو أطلق عليها الخلق فيراد بذلك نمطٌ خاصٌّ من الخلق يختلف عن خلق سائر الأشياء، والمشيئة قد تجلَّت في المخلوق الأوَّل وهم أنوار محمد وآل محمد، ولأجل ذلك يطلق عليهم "أولوا الأمر"، وهم واسطة الفيض كما يُشير إلى ذلك قوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا) ثمَّ إنَّه: قد ورد في زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم المنقول عن كلٍّ من الشيخ المفيد والسيد والشهيد:
(أوَّل النبيين ميثاقا وآخرهم مبعثاً الذي غمسته في بحر الفضيلة والمنزلة الجليلة والدرجه الرفيعة والمرتبة الخطيرة فأودعته الأصلاب الطاهرة ونقلته منها إلى الأرحام المطهرة..)(٥٣).
لا يسبقونه بالقول
ثمَّ إنَّ الملائكة قد أظهروا عجزهم في قبال هذا الأمر:
(قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم)(٥٤).
وكلامهم هذا في غاية الأدب والخضوع حيث ابتدؤا بالتسبيح ثمَّ نفوا العلم بنحو مطلق عن أنفسهم ونَسبوه إلى ربِّهم وفي خصوص الأسماء حيث أنَّه تعالى لم يعلِّمهم ذلك فلا علم لهم، ثمَّ أكَّدوا على أنَّ الله هو العليم الحكيم وفي ذلك إشارة إلى أنَّهم كانوا يرغبون في معرفة تلك الأسماء إن اقتضت الحكمة الإلهية.
الملائكة اقتنعوا
وهاهنا يأتي دور الخطاب الموَّجَه إلى آدم عليه السلام وهو نهاية المطاف وآخر مراحل الحديث مع الملائكة ومن خلال هذا الخطاب وجوابه وصل الملائكة إلى درجة الاطمئنان إن صح هذا التعبير بخصوص الملائكة!!
(قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأَهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)(٥٥).
أقول: إنَّ الله سبحانه في هذه المرحلة يخاطب آدم عليه السلام ويطلب منه أن يُنبأ الملائكة بتلك الأسماء، والإنباء ليس هو مجرَّد الإعلام بل يُطلَق على خبرٍ ذي فائدةٍ عظيمة وذلك الذي يحصل منه علم أو غلبة الظن. قال الراغب الاصفهاني في مُفرداته
(النبأ خبرٌ ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظنٍّ، ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتَّى يتضمَّن هذه الأشياء الثلاثة..)
ومراجعة موارد استعمال الكلمة في القرآن الكريم أحسن دليل على ذلك قال تعالى:
(فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون)(٥٦) (ولقد جاءك من نبأ المرسلين)(٥٧) (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون)(٥٨) (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه)(٥٩) (قل هو نبأ عظيم)(٦٠) (ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم)(٦١) (تلك القرى نقص عليك من أنبائها)(٦٢) (نَبِّأْ عبادي إنِّي أنا الغفور الرحيم)(٦٣) (قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا)(٦٤).
ومن الواضح أنَّه تعالى كان يريد تثبيت شخصية آدم عليه السلام وبيان منزلته العظيمة لا كآدم عليه السلام فحسب بل باعتبار أنَّه المَنشأ للخلق الجديد الذي يُطلَق عليه إنسان ذو الخصوصيّات المتميِّزة بين سائر الموجودات.
وهل الله سبحانه كان يريد أن يتعرف الملائكة على مستوى علم آدم عليه السلام وعلى ضوئه يخضعوا له بالسجود؟ هذا ما اعتقد به جمعٌ من المفسرين مع ما يتوجَّه إليهم من الملاحظات التي لا يمكن التخلُّص من الكثير منها.
أقول: هناك احتمال آخر أقوى ممّا ذُكر يتلاءم مع الأحاديث الشريفة أيضاً، وهو أنَّه سبحانه بعد أن عرض على الملائكة تلك الأنوار الطاهرة خلفائَه على البرية وحججه على خلقه ولم يتعرف الملائكة لا على أشخاصهم ولا على أسمائهم، فبطبيعة الحال لم يسكن غليلهم ولم يطمئنوا حيث لم تتمُّ لديهم فلسفة خلق الإنسان، فأراد سبحانه من آدم عليه السلام أن يُعرِّفهم للملائكة بذكر أسمائهم قال يا آدم أنبأهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم أذعنوا بالأمر واستسلموا وانحلت تلك الشبهة الغامضة التي نشأت من رؤيتهم غير الصحيحة بالنسبة إلى خلق آدم وهي أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء!
ولا بأس بالإشارة إلى حديثين في هذا المجال:
١ - ما نقله العلامة المجلسي عن كتاب إكمال الدين:
(عن الصادق عليه السلام أن الله تبارك وتعالى علم آدم عليه السلام أسماء حجج الله كلها ثم عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال الله تبارك وتعالى يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنباهم بأسمائهم وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله تعالى ذكره فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته ثم غيَّبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم وقال لهم (ألم اقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون))(٦٥).
ما نقله العلامة المجلسي عن تفسير فرات ابن إبراهيم الكوفي:
(عن أبي عبد الله عليه السلام قال إن الله تبارك وتعالى كان ولا شيء فخلق خمسة من نور جلاله واشتق لكل واحد منهم اسما من أسمائه المنزلة فهو الحميد وسمّاني محمَّدا وهو الأعلى وسمى أمير المؤمنين عليا وله الأسماء الحسنى فاشتق منها حسنا وحسينا وهو فاطر فاشتق لفاطمة من أسمائه فلما خلقهم جعلهم الميثاق عن يمين العرش وخلق الملائكة من نور فلما أن نظروا إليهم عظموا أمرهم وشأنهم ولقنوا التسبيح فذلك قوله تعالى (وإنا لنحن الصافون وإنّا لنحن المسبحون) فلما خلق الله تعالى آدم عليه السلام نظر إليهم عن يمين العرش فقال يا رب من هؤلاء قال يا آدم هؤلاء صفوتي وخاصتي خلقتهم من نور جلالي وشققت لهم اسما من أسمائي قال يا رب فبحقك عليهم علمني أسماءهم قال يا آدم فهم عندك أمانة سرّ من سرِّى لا يطَّلع عليه غيرك إلا بإذني قال نعم يا رب قال يا آدم أعطني على ذلك العهد فاخذ عليه العهد ثم علمَّه أسماءهم ثم عرض على الملائكة ولم يكن علمهم بأسمائهم فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال وأوفوا بولاية علي عليه السلام فرضا من الله أوف لكم بالجنَّة)(٦٦).
أقول: يستفاد من هذا الحديث أنَّ الملائكة كانوا قد شاهدوا هذه الأنوار قبل أن يُخلق آدم عليه السلام وذلك بعد أن خلقهم الله حيث ورد في الحديث:
(وخلق الملائكة من نور فلما أن نظروا إليهم عظَّموا أمرهم وشأنهم ولقنوا التسبيح فذلك قوله تعالى (وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون)).
فكانوا يعرفون شأنهم ومرتبتهم عند الله ولكنَّهم لم يتوقَّعوا أنَّ هناك علاقة بينهم وبين خلق آدم عليه السلام ومن هنا نشاهد أنَّهم وبمجرَّد أن عَرفوا أسمائهم وصلوا إلى القناعة الكاملة وقالوا: (سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم).
ولعلَّهم أشاروا بقولهم هذا أنَّه لا علم لنا أنَّ خلق آدم عليه السلام له علاقة بتلك الأنوار التي رأيناها سابقاً ولو كنّا نعلم ذلك لما اعترضنا أصلاً.
والجدير بالذكر أنَّه ورد حديث في الكافي الشريف يقول:
(محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن أبي عمير أو غيره عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال قلت له جعلت فداك إن الشيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية عمَّ يتساءلون عن النبأ العظيم قال: ذلك إليَّ، إن شئتُ أخبرتهم وإن شئت لم أخبرهم ثم قال: لكنِّى أخبرك بتفسيرها قلت عمَّ يتساءلون قال: فقال هي في أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول ما لله عز وجل آية هي أكبر مني ولا لله من نبأ أعظم مني)(٦٧).
والحديث ينطبق مع ما نحن فيه حيثُ أنَّ الولاية العظمى هي التِّي كانت السبب لخلق آدم عليه السلام ومن هنا قال: (أنبأهم بأسمائهم).
غيب السماوات والأرض
هذا: وبعد أن أنباهم آدم بأسمائهم عليهم السلام: (قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) والظاهر أنَّ علم الله بغيب السموات والأرض هو نفس العلم الذي جاء في الآية ٣٠ حيث قال إنِّي أعلمُ ما لا تعلمون.
ومن هنا يُعلم أنَّ تلك المسمَّيات الخاصَّة التِّي عرضت على الملائكة هي أمور غيبية عن العوالم المختلفة السماوية والأرضية، وهي على ما ذكرنا أرواحُ أئمتنا الأطهار عليهم السلام حيث أنَّها فوق السموات والأرض وفوق جميع الموجودات حيث أنَّ جميع الموجودات تُعدُّ من عالم الخلق، وأمّا تلك الأرواح فهي من عالم الأمر والمشيئة كما لاحظت في تعبير الإمام قدس سرُّه فتأمَّل في ذلك.
ولعلَّ الرواية الأولى تشير إلى هذا الأمر حيث جاء فيها:
(علم آدم الأسماء كلها ما هي قال أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض) وهذا التعبير يُشير إلى أنَّ تلك الأسماء لم تكن من الأرض بل هي غيب الأرض.
علم الغيب:
هذا: وينبغي لنا أن نتحدَّث ولو باختصار حول علم الغيب فنقول:
إنَّ هناك تعابير مختلفة في القرآن الكريم تتعلَّق بغيب السماوات والأرض.
ألف: أنّ الله عالم بغيب السماوات والأرض وهي ثلاث آيات:
١ - (قال ألم اقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)(٦٨).
٢ - (إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور)(٦٩).
٣ - (إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون)(٧٠).
ب: أنَّ غيب السماوات والأرض لله خاصَّة وهي أيضاً ثلاث آيات:
١ - (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون)(٧١).
٢ - (ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إنَّ الله على كل شيء قدير)(٧٢).
٣ - (قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا)(٧٣).
فهل يمكن للآخرين أن يطلِّعوا على علم الغيب أم لا؟ فماذا يعني إذاً قوله تعالى:
(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول فإنَّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا)(٧٤).
لا يهمنا البحث عنه هنا حيث أنَّه لا يتعلق بما نحن بصدد بيانه.
ماذا كانت الملائكة تكتمه؟
وأمّا قوله تعالى (وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون) وما كانوا يبدونه فواضح وأمّا الذي كانوا يكتمونه فغير معلوم إلاّ أنَّ هناك حديث عن الإمام السجاد عليه السلام يبيّن لنا ذلك وهو:
(قال عليه السلام:.. وما كنتم تكتمون ظناً أنّ لا يخلق الله خلقاً أكرم عليه منّا)(٧٥).
وهذا الكلام لا يُنافي ما كانوا يعلمونه سابقاً من خلق الأنوار كما مرَّ لأنَّهم في كلامهم هذا يُشيرون إلى عالم الخلق لا عالم الأمر حيث أنَّ الملائكة من عالم الخلق فلم يكونوا يتوقَّعون أن يخلق الله خلقاً أكرم عليه منهم فيأمرهم بالسجود له ففوجئوا بذلك.
الفصل الثاني: السجود لآدم عليه السلام
والظاهر أنَّ كل ما جرى بين الله والملائكة لم يكن إلاّ تمهيداً لأمرٍ واحدٍ وهو السجود لآدم عليه السلام، لا لأنَّه آدم بل لأنَّه مَجرىً للخلافة الإلهيَّة ومحلاً للفيض الربّاني، فالسجود في الواقع كان لله سبحانه وتعالى فإنَّ أحاديثنا الشريفة تُبَيِّن لنا حقيقةَ الأمر في ذلك:
(ففي رواية عن إمامنا موسى بن جعفر عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن على عليه السلام (في رواية طويلة حول أسئلة سألها يهودي من أمير المؤمنين عليه السلام فقال علي في جواب إحدى تلك الأسئلة) ولئن اسجد الله آدم ملائكته فان سجودهم لم يكن سجود طاعة أنَّهم عبدوا آدم من دون الله عز وجل ولكن اعترفوا لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له)(٧٦).
ولم يأمر الله ملائكته بالسجود لآدم إلاّ بعد أن سوّاه ونفخ فيه من روحه حيث يقول:
(وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأٍ مسنون فإذا سويتُه ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين)(٧٧).
ففي الواقع لم يكن السجود لجسم آدم بل إنَّما هو لروحه المنتسب إلى الله تعالى وهو من أمر الله (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)(٧٨).
وهناك أحاديث دالَّة على ذلك قد ذكرها المحدِّث الكليني رضوان الله تعالى عليه ننقل ثلاثة منها:
١ - (عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن بحر عن أبي أيوب الخزاز عن محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر عليه السلام عما يروون إن الله خلق آدم على صورته فقال هي صوره محدثه مخلوقه واصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح إلى نفسه فقال بيتي ونفخت فيه من روحي)(٧٩).
٢ - (محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن خالد عن القاسم بن عروه عن عبد الحميد الطائى عن محمد بن مسلم قال سالت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل ونفخت فيه من روحي كيف هذا النفخ؟ فقال إن الروح متحرك كالريح وإنما سمى روحا لأنه اشتق إسمه من الريح وإنما أخرجه عن لفظة الريح لأن الأرواح مجانسة الريح وإنما أضافه إلى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح كما قال لبيت من البيوت بيتي ولرسول من الرسل خليلي وأشباه ذلك وكل ذلك مخلوق مصنوع محدث مربوب مدبَّر)(٨٠).
والظاهر أنَّ المراد من التصوير أيضاً ذلك حيث أنّه لا يُطلق على الإنسان إنسان إلاّ بعد أن تكتمل صورته الإنسانيَّة (لأنَّ شيئيَّة الشيء بصورته لا بمادته تأمَّل) وهذه الصورة تمثِّل ذلك الروح ومن هنا قال سبحانه وتعالى:
(ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين)(٨١).
ومن هنا تعرف السرّ في الحديث الأوَّل من الأحاديث الثلاثة التِّي ذكرناها من كتاب الكافي الشريف:
(...محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر عليه السلام عما يروون إن الله خلق آدم على صورته..)(٨٢).
وللإمام قدِّس سرُّه شرح عميق ومختصر لهذا الحديث في كتابه القيِّم الأربعون حديثاً الحديث ٣٨ فراجع.
ولا بأس بذكر بعض النقاط التِّي ذكرها إمام الأمَّة هناك مع تلخيص:
قال: (ويستفاد ممّا ذكرناه أنَّ الإنسان الكامل مظهر الاسم الجامع، ومرآة تجلِّي الاسم الأعظم).
ثمَّ ذكر آية الأمانة التِّي شرحناها سابقاً وقال:
(وتكون الأمانة لدى العرفاء الولاية المطلقة التِّي لا يليق بها غير الإنسان، وقد أشير إليها في القرآن الكريم بقوله تعالى: (كلُّ شيء هالك إلاّ وجهه))
وفي كتاب الكافي بسنده:
(عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن أبي نصر عن محمد بن حمران عن أسود بن سعيد قال كنت عند أبي جعفر عليه السلام فانشأ يقول ابتداء منه من غير أن أساله نحن حجه الله ونحن باب الله ونحن لسان الله ونحن وجه الله ونحن عين الله في خلقه ونحن ولاة أمر الله في عباده)(٨٣).
وفي دعاء الندبة
(أين وجه الله الذي يتوجَّه إليه الأولياء؟ أين السبب المتصل بين الأرض والسماء)
وفي زيارة الجامعة
(والمثل الأعلى)
وهذا المثل الأعلى وذلك الوجه الإلهي هو الوارد في الحديث الشريف: (إنَّ الله خلق آدم على صورته) ومعناه أنَّ الإنسان هو المثل الأعلى للحق سبحانه، وآيته الكبرى، ومظهرها الأتم، وأنَّه مرآةٌ لتجلِّي الأسماء والصفات وأنَّه وجه الله وعين الله ويد الله وجنب الله.
انتهى كلامه رُفع في الخلد مقامه.
إبليس ليس من الملائكة
إنَّ الخصال الباطنيَّة لإبليس هي التِّي جرَّته إلى عدم إطاعة أمر الله بالسجود لآدم عليه السلام وأساس ذلك هو الكفر بالله سبحانَّه فهو الذي أدَّى إلى الاستكبار والإباء من السجود والفسق عن أمر ربِّه، وبذلك يمكننا الجمع بين الآيات الثلاثة وهي:
ألف: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبي واستكبر وكان من الكافرين)(٨٤).
ب: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى)(٨٥).
ج: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه)(٨٦).
أقول:
الظاهر أنَّ الآية الأخيرة لا تريد القول بأنَّ كلَّ من كان من الجنِّ فهو فاسق، كيف وهناك نفرٌ منهم آمنوا بالرسول صلى الله عليه وآله وقد تحدَّث عنهم القرآن بالتفصيل في سورة الجنّ، بل أنَّه تعالى حيث ذكر الملائكة قبل ذلك وبيَّن أنَّهم أُمروا بالسجود للإنسان ومن خصوصيّاتهم أنّهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، حيث أنَّهم عقول محضة لا تعتريها الهوى والشهوة، فربّما يستغرب السامع من عدم إطاعة إبليس فأراد الله سبحانه أن يدفع هذا الوهم المُقدَّر فقال: (كان من الجنّ ففسق عن أمر ربِّه) وقد فرَّع سبحانه الفسوق على كونه من الجنّ حيث أنَّه كان مخيَّراً بين الإطاعة وعدمها. فالاستثناء ليس مُتصِّلاً بل هو منفصل فيه لطافةٌ أدبيَّة يصل إليها المتأمِّل، والحديث التالي دليل على ذلك:
(ففي تفسير على بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام قال.. كان إبليس منهم بالولاء ولم يكن من جنس الملائكة)(٨٧).
والحاصل أنَّ جميع الملائكة بلا استثناء سجدوا لآدم عليه السلام إلاّ إبليس حيث كان كافراً من قبل إلاّ أنَّه كان يكتُم كفره فأبى واستكبر حينما أُمر بالسجود:
(وعن أبي عبد الله عليه السلام قال فلما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم أخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد)(٨٨).
ومن ثمَّ صار الكفر أقدم من الشرك (ففي الكافي الشريف بإسناده عن مسعدة قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام... إلى أن قال وسئل عن الكفر والشرك أيهما أقدم فقال الكفر أقدم وذلك إنَّ إبليس أوَّل من كفر وكان كفره غير شرك لأنه لم يدع إلى عبادة غير الله وإنما دعا إلى ذلك بعد فأشرك)(٨٩).
وأوَّل ما عصي به الله من الذنوب هو الكبر
(فقال على بن الحسين عليه السلام… فأوَّل ما عصى الله به الكبر وهي معصية إبليس حين أبي واستكبر وكان من الكافرين)(٩٠).
خلقتُ بيدَيّ!
والجدير بالذكر ما ورد في الآية المباركة حيث عاتب الله سبحانه إبليسَ (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين)(٩١).
فقد بيَّن سبحانه ميزةً خاصَّةً في خلق آدم حيث قال خلقت بيدي.
قال الإمام قدِّس سرُّه نقلاً عن العارف الكامل كمال الدين عبد الرزاق الكاشاني في تأويلاته:
(الإنسان هو الكون الجامع الحاصر لجميع مراتب الوجود فربُّه الذي أوجده فأفاض عليه كماله، هو الذات باعتبار جميع الأسماء بحسب البداية المُعبَّر عنه بالله، ولهذا قال تعالى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي بالمتقابلين كاللطف والقهر والجلال والجمال الشاملين لجميعها انتهى)(٩٢).
أقول:
وأمّا سائر الموجودات فقد خُلقت بيدٍ واحدة إمّا يد الجلال أو يد الجمال فالملائكة مثلاً مظاهر جمال الله سبحانه، وكذلك كثير من النباتات والجمادات كما أنَّ قسم من الجمادات والحيوانات قد تجلَّى فيها الجلال وأمّا الإنسان فهو الكون الجامع (وفيك انطوى العالم الأكبر) ثمَّ إنَّ قوله تعالى (ما منعك)؟ عتابٌ وهذا العتاب يدلُّ على أنَّ إبليس كان عالماً بخصوصيّات آدم عليه السلام وكان يعلم أنَّه لابدَّ أن يخضع له بالسجود حتَّى لو لم يكن هناك أمرٌ إلهي ناهيك عمّا لو كان أمرٌ في البين كما هو كذلك.
من هم العالون؟
موقف إبليس السلبي تجاه أمر الله وعدم سجوده لآدم عليه السلام لا يخلو من أحد الوجهين:
ألف: أنَّه نابع عن الروحيَّة الاستكبارية الكامنة فيه أستكبرت وكان كذلك.
ب: أنَّه ممن لم يُطلب منه أن يسجد لآدم لعلوِّه وسموِّ مرتبته أم كنت من العالين.
وهاهنا سؤال يطرح نفسَه وهو: من هم العالون؟
ومن المعلوم أنَّ العالين هم الذين من أجلهم قد أمر الله أن يَسجد الملائكة لآدم عليه السلام ولولاهم لم يخلق الله آدما ولا كان زيد في الوجود ولا عمر وهذا واضح عند التمعُّن في ما ذكرنا سابقاً، على أنَّ هناك حديثٌ نقله الشيخ الصدوق رحمه الله في كتابه كتاب فضائل الشيعة:
(باسناده عن أبي سعيد الخدرى قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ اقبل إليه رجل فقال يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل لإبليس استكبرت أم كنت من العالين فمن هم يا رسول الله الذين هم أعلى من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين كنا في سرادق العرش نسبح الله وتسبح الملائكة بتسبيحنا قبل أن يخلق الله عز وجل آدم بألفي عام، فلما خلق الله عز وجل آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له ولم يأمرنا بالسجود فسجدت الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس فانه أبي أن يسجد فقال الله تبارك وتعالى استكبرت أم كنت من العالين أي من هؤلاء الخمس المكتوب أسماؤهم في سرادق العرش الخبر)(٩٣).
وقد نقل في كتاب كنز العمال أيضاً.
إبليس يبرِّر موقفَه
من خصوصيات العبد المؤمن أن يُسلِّم جميع أموره إلى مولاه ويعلم أنَّه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فهو الفقير بالذات كما أنَّ ربَّه هو الغني بالذات فالتساؤل والتردُّد في قبال أوامره تعالى دليل على عدم الإيمان به فكيف بالوقوف ومحاولة تبرير الموقف وتوجيه الجريمة وذلك بالقياس الباطل، وهذا ما صدر من إبليس وعلَّم أولياءه حيث اعتمدوا على نفس الأسلوب فانظر إلى طريقة توجيه إبليس ومستوى جهله بل تجاهله
(قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)(٩٤) (قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون، قال فاخرج منها فإنك رجيم)(٩٥).
وإطلاق كلمة بشر يدلُّ على أنَّ إبليس تغافل عن الجانب الإنساني والنوراني فيه وقايس ما خُلق به هو النار ما خلق به آدم الطين ومن الطبيعي أنَّ هذا النمط من القياس ليس صحيحاً من جهات شتَّى:
منها: ما ورد الإشارة إليها سابقاً من أنَّ اللازم على العبد تسليم جميع أموره إلى مولاه لا ينحرف عنه قيد أنملة لأنَّ دينَ الله لا يُصاب بالعقول وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك نكتفي بحديثين منها:
(ابن عصام عن الكلينى عن القاسم بن العلاء عن إسماعيل بن على عن ابن حميد عن ابن قيس عن الثمالى قال قال علي بن الحسين عليه السلام عليه السلام: إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة ولا يصاب إلا بالتسليم فمن سلم لنا سلم ومن اهتدى بنا هدى ومن دان بالقياس والرأي هلك..)(٩٦).
ومن المعلوم أنَّ الدين لا يُراد منه العبادات والمعاملات فحسب بل يشمل جميع القضايا التِّي تمسُّ الدين فليس للعقول طريق للوصول إلى كنهها ومحتواها، والدليل عليه الحديث التالي:
(محمد بن الحسن القطان عن عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبي زرعه عن هشام بن عمار عن محمد بن عبد الله القرشى عن ابن شبرمه قال: دخلت أنا وأبو حنيفه على جعفر بن محمد عليه السلام فقال لأبي حنيفة اتق الله ولا تقس الدين برأيك فان أول من قاس إبليس أمره الله عز وجل بالسجود لآدم فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ثم قال أتحسن أن تقيس رأسك من بدنك قال لا قال جعفر عليه السلام: فأخبرني لأي شيء جعل الله الملوحة في العينين والمرارة في الأذنين والماء المنتن في المنخرين والعذوبة في الشفتين قال لا أدرى.. الخ الحديث)(٩٧).
ونفس الحديث بتفصيل آخر وأمثلة أخرى نقله صاحب كتاب دعائم الإسلام فراجع(٩٨).
ولا يخفى على القارئ الكريم أنّنا لا نريد القول ببطلان الاستنتاج العقلي بنحو مطلق حتّى ما اعتمد عليه علماء الأصول من الحسن والقبح العقليَين فإنَّ ذلك بابٌ آخر لا مجالَ للحديث عنه هنا فراجع مظانّه.
منها: أنَّ الله سبحانه يمكنه أن يخلق الأشياء لا من شيء أصلاً فالطين والنار ليس لهما دور في مستوى المخلوق منهما ولا علاقة كبيرة بين المخلوق والمخلوق منه، نعم هناك آثار خاصَّة لخصوص جسم كلٍّ منهما، ومن هنا نشاهد سرعة انتقال الجنّ ودخولهم وخروجهم وحركتهم بحيث لا يمكن رؤيتهم بسهولة، حتى أنَّه تعالى في معجزة العصى شبَّه سرعة العصى واهتزازها بالجان:
(وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان..)(٩٩).
لو قلنا أنَّ الآية تعني الجن
كلُّ ذلك لأنَّ الجن قد خُلق من النار والنار سريع الانتقال دون الإنسان الذي خُلق من الطين، ولكن ليست هذه فضيلة في الجنّ مادام أنَّه لا يملك ما يملكه الإنس، ومن هنا نشاهد أنَّ الإنسان لو أراد أن يستغلَّ روحانيته ونورانيته استغلالاً صحيحاً لتمكَّن من الوصول إلى مستويات من الرقي والعلوّ والنورانيَّة ما لا يخطر ذلك لدى الملائكة المخلوقين من النور ناهيك عن الجنّ ولهذا نشاهد وصول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في عروجه إلى مرحلةٍ بحيث (قال جبرئيل تقدَّم يا رسول الله ليس لي أن أجوز هذا المكان ولو دنوت أنملة لاحترقت)(١٠٠).
يقول سبحانه وتعالى عنه:
(ثمَّ دنى فتدلَّى فكان قاب قوسين أو أدنى)(١٠١).
وقد وردت الأحاديث الكثيرة التِّي تُفضِّل الإنسان المؤمن على الملائكة وأنَّ:
(الملائكة خدام المؤمنين)(١٠٢) (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً به)(١٠٣) (وإذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة)(١٠٤).
منها: أنَّه ما الدليل على أفضليَّة النار على الطين بل ربَّما تكون القضيَّة بالعكس كما ثبت علمياً أهميَّة الطين من نواحٍ مختلفة والجدير بالذكر أنَّه لولا الطين لما أمكن للخبراء أن يُسيطروا على آبار النفط حين حفرها!! فتأمَّل في نتائج ذلك.
ثمَّ إنَّ هناك آيةً تدلّ على مستوى عداوة إبليس لآدم وذريتَه:
(قال أ رأيتك هذا الذي كرمت عليَّ لئن أخرتن إلى يوم القيامةِ لأحتنكنَّ ذريته إلا قليلا)(١٠٥).
وفي اللغة حنك: يجوز أن يكون من قولهم حنكت الدابة أصبت حنكها باللجام والرسن... . فيكون معناه لأستولين عليهم.
الفصل الثالث: العهد الإلهي لآدم عليه السلام
(وَلَقد عَهِدنا إلى آدم مِن قبل فنسي ولم نجد له عزما)
ما هو ذلك العهد؟ قيل: أنه قوله تعالى: (لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)(١٠٦).
ويحتمل أن يكون العهد: هو عدم سماع مقولة إبليس وعدم التأثر بإضلاله الشيطاني كما تدلُّ عليها بعض الروايات أيضاً فهي التِّي نَسيها آدم.
وقال العلامة الطباطبائي قدس سرُّه في الميزان:
وهذا الاحتمال غير صحيح لقوله تعالى: (فوسوس لهما الشيطان وقال ما نهاكما ربُّكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إنِّي لكما لمن الناصحين)(١٠٧).
فهما حينما اقتربا إلى الشجرة كانا يذكران ذلك النهي ولم ينسياه.
ثمَّ: إنَّه قدس سرُّه ذكر احتمالاً آخرَ في هذا المجال وقوّاه.
ملخَّصُه: أنَّ العهد بمعني الميثاق الذي أخذه الله من بني آدم عامَّة ومن الأنبياء خاصة وبوجه آكد، وهو أن لا ينسى الإنسان في أيِّ حالة من الحالات ربَّه وخالقَه ويكون دائماً على ذُكر من ذلك فإنَّ نسيان ذلك يُؤدِّي إلى أن يبتلي بالحياة الدنيا ويعاني أنواع التعب والعناء حيث أنَّه يرى الأشياء أموراً مُستقلَّة لها أضرار ومنافع وينبع منها الخير والشرّ ومع هذه الرؤية نراه يتقلَّب بين الخوف عمّا يخاف فوته والحذر من الخطر والحزن على ما فات والتحسُّر مما افتقده من المال والمنصب والبنون. وفي هذه الحيوة الدنيا كلَّما نضج جلدُه واعتاد بمكروه بُدِّل إلى جلدٍ آخر ليذوق العذاب، فمن وقع في الدنيا واتَّبع هدى الله فبطبيعة الحال ينجو من هذه الآلام ولهذا نراه سبحانه يُعقِّب تلك الآيات بقوله:
(فإمّا يأتينكم منِّي هدىً فمن تبع هداي فلا يضلُّ ولا يشقى)(١٠٨).
وهذه الهداية تتمركز في ذكر الله على كلِّ حال وعدم نسيانه تعالى، وفي قبال ذلك:
(ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكاً)(١٠٩).
ومن هنا يُعلم أنَّ اقتراب تلك الشجرة كان يؤدِّي إلى التعب والشقاء الذي يحصل من العيش في الدنيا ناسياً للربِّ تعالى(١١٠) انتهى كلام العلامة مع تلخيص وتنقيح.
وللإمام قدِّس سره في هذا الأمر كلام سوف نبيِّنه في البحث حول الشجرة المنهية إنشاء الله.
أقول:
ومما بيَّنه العلامة نستنتج أنَّ نار الجحيم كامن في هذه الدنيا كما عبَّر إمامنا بذلك أيضاً.
العهد والولاية
وقد وردت روايات تُبيِّن المراد من هذا العهد نذكر ثلاثة منها:
أحدها:
(الحسين بن محمَّد عن المعلَّى عن جعفر بن محمَّد بن عبيد الله عن محمَّد بن عيسى القمي عن محمَّد بن سليمان عن عبد الله بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام في قوله ولقد عهدنا إلى آدم من قبل كلمات في محمَّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذرِّيتهم فنسي..)(١١١).
ثانيها:
(عن سعد عن ابن عيسى عن علي بن الحكم عن المفضَّل بن صالح عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزَّ وجلَّ ولقد عهدنا آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما قال عَهِد إليه في محمَّد والأئمة من بعده فترك ولم يكن له عزم فيهم انَّهم هكذا..)(١١٢).
ثالثهما:
(أحمد بن محمَّد عن علي بن الحكم عن داود العجلي عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام قال إن الله تبارك وتعالى حيث خلق الخلق خلق ماءاً عذباً وماءاً مالحاً أجاجا فامتزج الماءان.... إلى أن قال عليه السلام ثم أخذ الميثاق على النبيِّين فقال ألست بربِّكم ثمَّ قال وإن هذا محمَّد رسول الله وإن هذا علي أمير المؤمنين قالوا بلى فثبتت لهم النبوة وأخذ الميثاق على أولى العزم إني ربُّكم ومحمَّدٌ رسول الله وعليٌّ أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزّان علمي وأنَّ المهديَّ أنتصر به لديني وأظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي وأُعبدُ به طوعاً وكرهاً قالوا أقررنا وشهِدنا يا ربِّ ولم يجحد آدم ولم يقرَّ فثبتت العزيمةُ لهؤلاء الخمسة في المهديِّ ولم يكن لآدم عزم على الإقرار به وهو قوله عزَّ وجلَّ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما)(١١٣).
أقول:
إنَّ ذكرَ الله لا يتحقق إلاّ مع ذكر الأئمة عليهم الصلاة والسلام وخصوصاً الإمام الحاضر الحجة ابن الحسن العسكري سلام الله عليه الذي هو إمام الزمان والعصر وما يتحقق فيهما، فهو إذاً الواسطة للفيوضات الإلهيَّة إلى الخلق ولولاه لما خُلقت الأفلاك ولما نزل الغيث ولوقعت السماء على الأرض إلاّ بإذنه ولولاه لما كُشف الغمُّ ولما ذهب الهمُّ وهذه هي الولاية التكوينيَّة الثابتة لهم وله عليهم السلام عقلاً ونقلاً المشارة إليها في الرواية بقوله (أنَّهم هكذا) ولهذا نرى في ذيل الرواية الثانية عندما ذكر إمامُنا الباقر عليه السلام العلةَ التِّي من أجلها صار بعضُ الأنبياء أولي العزم أكَّدَّ على خصوص المهدي عليه السلام وسيرته المميزة النابعة من ولايته التكوينيَّة قال عليه السلام:
(وإنما سمى أولو العزم لأنَّهم عهد إليهم في محمَّد والأوصياء من بعده والمهدى وسيرته فاجمع عزمهم إن ذلك كذلك والإقرار به)(١١٤).
وقال الراغب العهد حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال وسمى المَوثق الذي يلزم مراعاته عهداً.
والجدير بالذكر أنَّ أكثر الموارد لكلمه العهد ومشتقاتها المذكورة في القرآن الكريم تنطبق على الأئمة المعصومين عليهم السلام. وفي هذا المجال هناك روايات كثيرة وردت في تبين العهد المذكور في القرآن ضمن الآيات المختلفة نذكر ثلاثة منها كنموذج لذلك:
١ - (المناقب قال روينا حديثا مسنداً عن أبي الورد عن أبي جعفر عليه السلام قال قوله عز وجل أ فمن يعلم إنما انزل إليك من ربك الحق هو علي بن أبي طالب والأعمى هنا هو عدوُّه وأولوا الألباب شيعته الموصوفون بقوله تعالى (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) المأخوذ عليهم في الذرّ بولايته ويوم الغدير)(١١٥).
٢ - (من كتاب محمَّد بن العباس بن مروان عن محمَّد بن هشام بن سهيل العسكرى عن عيسى بن داود النجَّار عن أبي الحسن موسى بن جعفر عن أبيه في قول الله جلّ وعزّ وأوفوا بالعهد ان العهد كان مسئولا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم قال العهد ما اخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الناس في مودتنا وطاعة أمير المؤمنين أن لا يخالفوه ولا يتقدموه)(١١٦).
٣ - (احمد بن محمَّد الشيباني عن محمَّد بن احمد بن معاوية محمَّد بن سليمان عن عبد الله بن محمَّد التفليسي عن الحسن بن محبوب عن صالح بن رزين عن شهاب بن عبد ربِّه قال سمعت الصادق عليه السلام? ?يقول يا نحنُ شجرةُ النبوَّة ومعدن الرسالة.... فمن وفى بذمتنا فقد وفى بعهد الله عزَّ وجلَّ وذمته ومن خفر ذمتنا فقد خفر ذمه الله عز وجل وعهده)(١١٧).
وفي القاموس:خفر به خفراً وخفوراً نقضَ عهده وغدره كأخفره.
أجر الرسالة
أقول:
ثمَّ إنه لا شك أنهَّم عليهم السلام ذوي قُربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأجر الرسالة مُنحصرةٌ في مودَّتِهم عليهم السلام لقوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودَّةَ في القُربى)(١١٨).
وقال تعالى في توصيف الفاسقين: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل..)(١١٩).
فنحن حتى لو قلنا أن الآية بصدد بيان تعاهد الأرحام والقرابات فأفضل رحم وأوجبه حقاً رحمُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ حقهم بمحمّد كما أن حق قرابات الإنسان بأبيه وفي هذا المعنى وردت أحاديث كثيرة لا مجال لنقلها هنا فراجع مظانَّها.
ثمَّ إنَّ هاهنا تشاجر طويل حول المقصود من نسيان آدم لا يخصُّنا التعرض له تفصيلاً إلا أنَّنا نذكر ما بيَّنه بعضُ المفسرين في هذا المجال وذلك في ذيل الآية المباركة في سورة الكهف حيث قال:
فأما قوله لا تؤاخذني بما نسيت فقد ذكر فيه وجوه ثلاثة: (إلى أن قال) والوجه الثاني: انَّه أراد لا تؤاخذني بما تركت ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي) أي ترك(١٢٠).
وقال الراغب في مفرداته (عندما ذكر الوجوه المختلفة لتسمية الإنسان إنسانا) وقيل هو إفعلان وأصله إنسيان سمي بذلك لأنَّه عُهد إليه فنسي.
وأمّا نحن فلنا كلام مبتكر في معنى الإنسان غير ما ذكره القوم سوف نتحدث عنه في مظانِّه إنشاء الله تعالى.
الفصل الرابع: صفات جنَّة آدم عليه السلام
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبي فقلنا يا آدم إن هذا عدوّ لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنَّة فتشقى)(١٢١).
(وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجُك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)(١٢٢).
(ويا آدم أسكن أنت وزوجُك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)(١٢٣).
قبل أن نبدأ الحديث حول الشجرة المنهيَّة لابدَّ لنا أن نعلم أنَّ الغرض من خلق آدم هو جعل (وليس خلق) خليفة في الأرض (لا في مكان آخر غير الأرض) حيث قال سبحانه إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة فالله سبحانه وتعالى أمره أن يسكن الجنّة وأن يأكل منها حيث شاء رغداً وقد نهاه الله عن التقرُّب إلى الشجرة وهو تكليف ومنع ولا تكليف ولا منع في الجنَّة أصلاً فيعلم أنَّ الجنَّة لم تكن أخرويَّة بل هي جنَّة أخرى وفي الحديث أنَّها جنّة من جنّات الدنيا وكانت في الأرض والمفروض أن يبقي فيها آدم ولكنه هبط منها بسبب تصرُّفه غير الصحيح من أكله الشجرة.
قال تعالى: (فلا يخرجنكما من الجنَّة فتشقى).
فيفهم من هذا النهي أنَّه إرشادي أي أنَّ عصيانه يؤدِّي إلى الخروج من الجنة الذي ينجرُّ إلى الشَقاء والتعب الشديد الجسمي والروحي وقد مرَّ تفصيله وأيضاً العيش في الدنيا يستتبع الاكتساب والسعي لطلب الرزق وإعاشة الزوجة والعيال، ولو كان المراد من الشقاء هو ما يقابل السعادة الأخرويَّة لكان يشمل حواء أيضاً خصوصاً أنها كانت السبب الرئيسي للأكل من تلك الشجرة وكان الصحيح أن يعبَّر بـ(فتشقيا) فلِمَ أفرده سبحانه بآدم؟
على أنَّ الآيات التِّي تتلوا هذه الآية خير دليل على ما ادَّعيناه.
قال سبحانه: (إن لك ألاّ تجوع فيها ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى)(١٢٤).
فهذه هي صفات جنَّة آدم وصفات الدنيا هي عكسها.
(ثم أسكن سبحانه آدم داراً أرغد فيها عيشه وآمن فيها محلته وحذَّره إبليس وعداوته، فاغتره عدوُّه نفاسةً عليه بدار المُقام ومرافقةِ الأبرار فباع اليقين بشكه والعزيمةَ بوهنه واستبدل بالجدل وجلاً وبالاغترار ندما ثم بسط الله سبحانه له في توبته ولقّاه كلمة رحمتِه ووعده المردَّ إلى جنتِه فأهبطه إلى دار البليةِ وتناسل الذرِّية)(١٢٥).
بنو إسرائيل والمنُّ والسلوى
وهذا النمط من الحياة نشاهده بنحو مجمل في بني إسرائيل أيضاً حيث أنَّ القرآن الكريم يبيِّن حالات بني إسرائيل قبل الهبوط في سور ثلاثة (البقرة، الأعراف، طه) هم كانوا يتنعَّمون بنفس الأسلوب الذي كان عليه آدم عليه السلام قال تعالى: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين)(١٢٦).
وقال:
(وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون * وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين)(١٢٧).
والجدير بالذكر أنَّه تعالى قد ذكر في سورة طه قصَّة بني إسرائيل وقال:
(ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم)(١٢٨).
ثمَّ شرع في الحديث عن آدم عليه السلام.
ولا يخفى عليك الانسجام الكامل بين التعابير التِّي وردت في شأن بني إسرائيل والتِّي وردت في شأن آدم وزوجته حيث قال تعالى:
(فكلوا منها حيث شئتم رغدا)
وتوجد كلمة في هذه الآيات تدلُّ على الحرية الكاملة التِّي كان يتنعَّم بها بنو إسرائيل وهي "حيث شئتم" وقد ذكرت في آيتين وهي نفسها التِّي أعطيت آدم وزوجته "حيث شئتما" وهذه أيضاً قد ذكرت في آيتين(١٢٩).
وفي الحديث:
(وقال الصادق عليه السلام: كان ينزل المنّ على بني إسرائيل من بعد الفجر إلى طلوع الشمس فمن نام في ذلك الوقت لم ينزل نصيبه فلذلك يكره النوم في هذا الوقت إلى طلوع الشمس)
ثمَّ قال:
(وقال ابن جريح:.. ويوجد له طعم كالشهد المعجون بالسمن وكان الله تعالى يبعث لهم السحاب بالنهار فيدفع عنهم حر الشمس وكان ينزل عليهم في الليل من السماء عمود من نور يضيء لهم مكان السراج وإذا ولد فيهم مولود يكون عليه ثوب يطول بطوله كالجلد)(١٣٠).
وأنت تلاحظ في هذه الرواية أنَّ الصفات المتواجدة في الأرض قبل هبوط بني إسرائيل هي نفس صفات جنَّة آدم عليه السلام.
الشجرة المنهيَّة
واختلفوا في الشجرة المنهية فقيل كانت السنبلة رَوَوه عن ابن عباس، قيل هي الكرمة رَوَوه عن ابن مسعود والسدي وقيل هي شجرة الكافور وقال الشيخ في التبيان رُوي عن علي عليه السلام انَّه قال شجرة الكافور وقيل هي التينة وقيل شجرة العلم علم الخير والشر وقيل هي شجرة الخُلد التي كانت تأكل منها الملائكة.
ولا طريق إلي معرفة تلك الشجرة إلاّ أحاديث أئمتنا عليهم السلام وهي مختلفة:
فبعضها: تقول أنَّها الحنطة كالأحاديث التالية:
١ - (تميم القرشي عن أبيه عن حمدان بن سليمان عن علي بن محمَّد بن الجهم قال...قال الرضا علي بن موسى عليه السلام... إن الله تبارك وتعالى قال لآدم أسكن أنت وزوجك الجنَّة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة وأشار لهما إلى شجرة الحنطة)(١٣١).
٢ - (الصدوق عن أبيه عن سعد عن ابن يزيد عن ابن أبي عمير عن هشام عن الصادق عليه السلام انه قال في قوله تعالى (وبدت لهما سوآتهما) كانت سوآتهما لا ترى، فصارت ترى بارزة وقال الشجرة التي نهي عنها آدم هي السنبلة)(١٣٢).
٣ - (محمَّد بن عمر بن على بن عبد الله البصري عن محمَّد بن عبد الله بن احمد ابن جبلة عن عبدالله بن أحمد بن عامر الطائي عن أبيه عن الرعن آبائه عن الحسين بن على عليه السلام قال كان علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة في الجامع إذ قام إليه رجل من أهل الشام..... وسأله لم صار الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين فقال من قبل السنبلة كان عليها ثلاث حبات فبادرت إليها حواء فأكلت منها حبه وأطعمت آدم حبتَين فمن أجل ذلك ورِث الذكر مثل حظِّ الأنثيين)(١٣٣).
وبعضها: تقول أنَّها شجرة الحسد:
(قال موسى بن محمَّد بن الرضا.... قال أخي علي بن محمَّد عليه السلام.... الشجرة التي نهي الله عنها آدم وزوجته أن يأكلا منها شجره الحسد عهد إليهما أن لا ينظرا إلى من فضل الله على خلائقه بعين الحسد فنسي ونظر بعين الحسد ولم نجد له عزما)(١٣٤).
وأماّ الكافور والتينة والكرمة فلم أعثر على أحاديثها إلاّ أنَّه هناك حديث يجمع بين الكل وهو:
(ابن عبدوس عن ابن قتيبة عن حمدان بن سليمان عن الهروي قال قلت للرضا عليه السلام يا ابن رسول الله اخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت فقد اختلف الناس فيها فمنهم من يروي أنها الحنطة ومنهم من يرى أنَّها العنب ومنهم من يروي أنَّها شجره الحسد فقال كلٌّ ذلك حقٌّ قلت فما معنى هذه الوجوه على اختلافها فقال يا أبا الصلت إنَّ شجر الجنة تحمل أنواعاً فكانت شجرة الحنطة وفيها عنب وليست كشجر الدنيا وإنَّ آدم عليه السلام لما أكرمه الله تعالى ذكره بسجود ملائكته له وبإدخاله الجنَّة قال في نفسه هل خلق الله بشراً أفضل منِّي فعلم الله عزَّ وجلَّ ما وقع في نفسه فناداه ارفع رأسك يا آدم فانظر إلى ساق عرشي فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا لا اله إلا الله محمَّد رسول الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وزوجه فاطمة سيده نساء العالمين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنَّة فقال آدم عليه السلام يا رب من هؤلاء فقال عز وجل من ذريتك وهم خير منك ومن جميع خلقي ولولا هم ما خلقتك ولا خلقت الجنَّة والنار ولا السماء والأرض فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم فتسلط الشيطان عليه حتى أكل من الشجرة التي نهى عنها وتسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة عليها السلام بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل أدم فأخرجهما الله عز وجل عن جنته وأهبطهما عن جواره إلى الأرض)(١٣٥).
أقول: ويستفاد من هذا الحديث أنَّ جنَّة آدم لإنْ كانت من جنّات الدنيا لم تكن من التِّي يطلق عليها اسم الجنَّة مجازاً كما اعتقد بذلك بعض المفسِّرين بل كانت هي الجنَّة حقيقةً حيث كانت ذات وعاء أوسع من الدنيا لأنَّه قد اجتمعت جميع تلك الثمار في شجرة واحدة من أشجارها وهذا شأن عالم الوحدة.
ولا بأس ههنا أن ننقل كلمة حول الآخرة لإمامنا قدِّس سرُّه ذكرها في كتابه القيِّم شرح دعاء السحر تحت عنوان (ليس في الآخرة تزاحم بين الكثرات) قال:
(سمعت من أحد المشايخ من أرباب المعرفة رضوان الله عليه يقول: أنَّ في الجنَّة شربةً من الماء فيها جميع اللذات من المسموعات بفنونها من أنواع الموسيقى والألحان المختلفة، ومن المبصرات بأجمعها من أقسام لذات الأوجه الحسان وسائرها من الأشكال والألوان، ومن سائر الحواس على ذلك القياس حتّى الوقاعات وسائر الشهوات كلٌّ يمتاز عن الآخر. وسمعت من أحد أهل النظر رحمه الله تعالى يقول: أنَّ مقتضى تجسُّم الملكات وبروزها في النشأة الآخرة أنَّ بعضَ الناس يُحشر على صُوَرٍ مختلفة، فيكون خنزيراً وفأرة وكلباً إلى غير ذلك في آنٍ واحد. ومعلوم أنَّ ذلك لسعة الوعاء وقربها من عالم الوحدة والتَّجرد وتنزُّهها عن تزاحم عالم الطبيعة والهيولى انتهى كلامه أعلى الله مقامه)(١٣٦).
ثمَّ إنّ في الحديث قد ذكرت كلمة الحسد وهل المقصود منه الحسد المصطلح لدينا والذي هو من المحرمّات الذي هو يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب؟
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله:
المراد بالحسد الغبطة التي لم تكن تنبغي له عليه السلام ويؤيده قوله عليه السلام وتمنَّى منزلتهم(١٣٧).
أقول: ولنا حول هذا النوع من الحسد كلام نبيُّنه في محله إنشاء الله.
الوسوسة!!
الشيطان بعد أن طُرد من رحمة الله وقربه وشمله اللعن الإلهي صار عدوّاً بيِّناً للإنسان كما صرَّح بذلك القرآن الكريم في مواضعَ ثمانية بأنَّ الشيطان للإنسان عدوّاً مبينا وبخصوص إبليس قال تعالى مخاطباً لآدم:
(يا آدم إن هذا عدوّ لك ولزوجك فلا يُخرجنكما من الجنَّة فتشقى)(١٣٨).
أقول: أمّا عداوة إبليس لآدم فذلك واضح، كيف وهو الذي أبي وأستكبر ولم يُطع الله فيما أمره من السجود ولهذا فقد لعنه الله سبحانه وأبعده عن رحمته ومن الطبيعي أنَّ من يبتعد عن الخير المطلق سوف ينغمر في الشرّ المطلق.
والظاهر أنَّ الخطاب هنا خاص لآدم ويتعلق بخصوص إبليس وذلك لمكان قوله تعالى (إنَّ هذا).
ثمَّ إنَّ التصريح بزوج آدم في الآية المباركة وتكرار حرف الجرّ أعني اللام في ولزوجك ربما يستهدف أمرين:
١ - الاهتمام البالغ بالمسألة وعدم التهاون بها حيث أنَّ العداوة تشمل الزوجة أيضاً ومن الطبيعي أنَّ آدم كان متعلقاً بزوجته ومستأنساً بها.
٢ - التنبيه المسبق لآدم عمّا سيحدث وهو أنَّ زوجتَه هي التِّي سوف تدعوه إلى الأكل من تلك الشجرة.
ولكنْ: مع ذلك استطاع أن يُغوي آدم وذلك من خلال الوسوسة إليه (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى)(١٣٩).
والوسواس هو صوت الحلي والهمس الخفي ويستعين به الشيطان دائماً لإغواء الناس حيث يوسوس في صدورهم فلا بدَّ من الالتجاء والاستعاذة بربِّ الناس لأجل النجاة من شرِّه كما قال تعالى:
(قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس)(١٤٠).
ومن الواضح أنَّ الإنسان لا يمكنه أن يعرف ربَّه إلاّ أن يعرف نفسَه مُسبقاً وبمعرفة النفس يمكنه أن ينجو من شرّ وساوس الشيطان فتأمَّل تعرف. ومن هنا نعرف السرّ في أهميَّة ذكر الله عندما يبتلى الإنسان بالشيطان لأنَّ الشيطان خنّاس فعند ذكر الله يفرّ وعند الغفلة يرجع ومن هنا سمِّيَ خنّاساً. (والمقصود الذي يخنس أي ينقبض إذا ذكر الله تعالى) وقوله تعالى: (فلا أقسم بالخنس) أي الكواكب التي تخنس بالنهار، والإنسان يمكنه أن يتخلص من الشيطان بمجرد أن يذكر الله: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)(١٤١).
فعلى الرغم من أنَّ الله سبحانه قد حذَّر آدم من التقرُّب إلى تلك الشجرة إلاّ أن الشيطان قد استغل أسلوبه الخطير الذي هو التسويل والتزيين (قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى)(١٤٢).
لأنَّ آدم عليه السلام كان يرغب في الخلود والبقاء في الجنَّة وشجرةُ الخلد تعني أنَّه سوف يُرسِّخ من خلالها جذوره في الجنَّة ومن ثمَّ سوف يصل إلى مُلكٍ لا يزول أصلاً.
ولكن كان هدف الشيطان أن يُزيل آدم وزوجته من تلك الحالة النورانيَّة التِّي شرحناها سابقاً حيث لم يكن يحتاج إلى اللباس ولم يكن يجوع حيث أنَّه لم يكن يطلق عليه الجسم بالمعنى الفعلي حتَّى يحتاج إلى الغذاء الجسماني نعم كان يتنعَّم بالأغذية الروحانية والمعنوية كما ورد في شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم:
(إن الملائكة طعامهم التسبيح وشرابهم التقديس)
ومن هنا نشاهد أنَّ الوصال في الصوم كان مباحا للنبي صلى الله عليه وآله وحرام على أمته ومعناه أنه يطوى الليل بلا أكل وشرب مع صيام النهار لا أن يكون صائما لأن الصوم في الليل لا ينعقد بل إذا دخل الليل صار الصائم مفطرا إجماعا فلما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أمته عن الوصال قيل له انك تواصل فقال:
(إني لست كأحدكم إنِّي أظل عند ربى يطعمني ويسقيني)(١٤٣) (وقد قال صلى الله عليه وآله أن عيني تنامان ولا ينام قلبي)(١٤٤) (العطار عن أبيه عن الاشعرى عن الجامورانى عن منصور بن العباس عن عمرو بن سعيد عن الحسن بن صدقه قال قال أبو الحسن الأول عليه السلام قيلوا فان الله يُطعم الصائم ويسقيه في منامه)(١٤٥).
وإذا نجح في هذه المرحلة فسوف يمكنه أن يغويهما بسهولة في المراحل الأخرى:
(فوسوس لهما الشيطان ليبدى لهما ما وُرِى عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلَّهما بغرور)(١٤٦).
والظاهر أنَّ آدم كان معجباً بالملائكة حيث استغلَّ الشيطان هذا الإعجاب فقال إلا أن تكونا ملكين ولو كان آدم عارفاً نفسَه حقَّ المعرفة لكان من اللازم أن لا ينخدع بمثل هذا الكلام ومن المفروض أن يَردَّ على الشيطان بأنَّه أفضل من الملك! ولكنَّه لم يكن يعرف السرّ الكامن فيه والهدف الذي خلق لأجله حقَّ المعرفة كما شرحنا سابقاً ومن هنا نراه قد اقتنع بكلام الشيطان خصوصاً عندما استعان بالقسم الكاذب وأنَّه بالفعل من الناصحين!
فماذا حدث؟ يقول سبحانه:
(فأكلا منها فبدَت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورقِ الجنة وعصى آدم ربَّه فغوى)(١٤٧).
فماذا حصل بعد الأكل؟
الذي حصل ليس هو إلاّ الهبوط من الحالة الروحانيَّة النورانيَّة إلى الحالة الجسمانية الظلمانيَّة.
وقد ذكر الله ذلك من خلال لازمه حيث قال: (فبدت لهما سوآتهما)
وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنَّما يدلُّ على تغيير حالتهما ليس إلاّ والشاهد على ذلك قوله تعالى: (وطفقا يخصفان عليهما من ورقِ الجنة)
فلا يَزالا يعيشان في الجنَّة وهما خارجان منها وذلك لأنَّهم كانا يحتاجان لستر عورتهما إلى ورقها وهذا معنى الهبوط الذي يلازمه الشقاء والتعب وقد شرحناه سابقاً وسنُبيِّنه في مطاو كلامنا والدليل على ذلك قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين)(١٤٨).
تأمَّل في قوله تعالى: (فأخرجهُما ممّا كانا فيه)
فكلمة ما تُشير إلى الحالة التِّي كانا فيها وتبيِّن الصفة التِّي كانا مُتصفين بها لأنَّ الضمير في عنها يرجع إلى الجنَّة فهما قد أُزِّلا عن الجنَّة وجرّاء الإزلال والانزلاق عن الجنَّة حصلت حالة أخرى وهي أنَّهما أخرجا ممّا كانا فيه أي من تلك النورانية التي كانا فيها (هذا ما يستفاد من الفاء في قوله تعالى (فأخرجهما).
وقد ذكر القرآن الكريم هبوط آدم في مواضع ثلاثة:
الأوَّل: بتثنية الفعل:
(قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى)(١٤٩).
الثاني: بجمع الفعل:
ألف: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين)(١٥٠).
ب: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(١٥١).
ج: (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين)(١٥٢).
ونفس الحالة ولكن بمستوى آخر قد حدثت فيما بعد لبني إسرائيل حيث لن يصبروا على طعام واحد:
(وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد)
وكانوا يطلبون من موسى أن يدعوَ الله أن يُخرج لهم الأطعمة المتنوِّعة
(فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها)
وهذه الأطعمة المستخرجة من الأرض هي أطعمة الدنيا ومن هذا المنطلق صارت هي الأدنى
(قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)
ولابدَّ من الهبوط عن تلك الحالة الخاصَّة المعنويَّة لمثل هذا الإنسان الحريص على الدنيا:
(اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم)
وبطبيعة الحال لم يكن موسى عليه السلام يرغبُ لبني إسرائيل هذا الهبوط الذي يؤدِّي إلى الذلة:
(وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله)(١٥٣).
نتيجة الهبوط
التورُّط في الدنيا ومزاحماتها وكثراتها ومن ثمَّ السعي لتصاحبها بنحو تامّ كلٌّ يريده وهذا ما أوجد العداوة والبغضاء بين الناس:
(وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو)
وأوَّل حادث حدث هو قتل قابيل هابيل حيث يقول تعالى:
(فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين)(١٥٤).
(من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحي الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون)(١٥٥).
ثمَّ إنَّ إرسال الرسل وإنزال الكتب لم يكن ضمن المُخطَّط الأوَّل، ولم يكن بني آدم يفتقر إلى الهداية بهذه الصورة لأنَّه كان يعيش عالم الأنوار ولكن حيث أنّ الإنسان قد وقع في معرض الهلاك بسبب مكائد الشيطان وحِيَلِه كان من اللازم عليه سبحانه أن يُرسل الرسل ويُنزل معهم الكتب حيناً بعد حين لئلاّ يكون للناس على الله حجّة.
ومن الطبيعي أنّهما قد ارتكبا خلافاً لأوامر الله ولهذا يقول سبحانه (وناداهما ربُّهما ألم أنهَكُما عن تلكما الشجرةِ وأقل لكما إن الشيطانَ لكما عدوٌّ مبينٌّ قالا رَبَّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين)(١٥٦).
قبول توبة آدم لا ينافي هبوطه
قال تعالى: (ثم اجتباه ربُّه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعاً بعضُكم لبعض عدوٌّ فإمّا يأتينكم مني هدىً فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرضَ عن ذِكري فإن له معيشةً ضنكا ونحشُره يوم القيامة أعمى قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسِيتها وكذلك اليومَ تُنسى)(١٥٧).
الآيات تدلُّ على أنَّ الله سبحانه اجتبى آدم فتاب عليه وهذا لا ينافي بقائه خارج الجنَّة لأنَّ قبول التوبة شيء والرجوع إلى الجنَّة شيء آخر ولتوضيح ذلك نذكر مثالاً فنقول:
لو أنَّ رجلاًَ كان يسكن مع أبيه في البيت من دون أن يدفع مبلغاً مقابل سكناه بل يتمتَّع بجميع ما في بيت أبيه من غير مقابل ثمَّ إنَّه وبسوء تصرُّفه نازع أباه وتشاجر معه وجرّاء ذلك طرده أبوه من البيت وحرمه من جميع تلك التسهيلات التي كان يتنعَّم بها فاضطرَّ إلى العيش في مكان ضيِّق وذلك مقابل إيجار وتحمُّل المشاق والصعوبات فابتلى بمصيبتين:
١ - الحرمان من أبيه كمصدر للعاطفة والحنان (وهو أمرٌ معنوي بحت).
٢ - الخسارة المالية التي يتحمَّلها اثر إخراجه من البيت (وهو أمر مادِّي).
فلو فرض أنَّه اعتذر من أبيه، وطلب منه قبولَ عذره وأصرَّ على ذلك وبالفعل اكتسب رضاه، فهذا لا يعني أنَّه سوف يرجعه إلى البيت مرَّةً ثانية حيث لا تلازم بينهما بل الخير والمصلحة في بقائه خارج البيت لعلَّه يَعتبر فيسعى لإرجاع نفسه إلى ما كان فيه مرَّةً أخرى.
فإذاً قبول عذره قد حلَّ مشكلةً واحدةً من مشاكله أعني المشكلة المعنوية وهي الأهمّ ولكن تبقى المشكلة الثانية ولكن المشكلة الأولى باقية على ما كانت، وحلُّها الحاسم يتطلَّب السعي والجدّ في كسب الرضا القلبي للأب مضافاً إلى جبر ما حدث كي لا يبقى شيء من الخجل أصلاً.
ولو فُرض أنَّ الأب أرجعه إلى بيته مباشرةً فلا جدوى في ذلك حيث لا رغد في هذا العيش بعد ما حدث من التقصير.
ومن هنا صار الأصلح (بعد الخروج) البقاء خارج البيت والسعي للوصول إليه مرَّةً ثانية ولكن بالسعي المتواصل.
وعلى ضوء المثال الذي بيَّناه نقول:
بعد أن أكل آدم من الشجرة حدثت له مشكلتان:
١ - ابتعد عن رحمة ربِّه.
٢ - ابتلى بالهبوط وعاش في عالم الدنيا الذي ليس هو إلاّ متاع.
فبعد أن رجع إلى ربِّه وتاب وقبلت توبته اقترب إلى ربِّه مرَّةً ثانية وعاش في ظل رحمته ولكن هذا لا يعني أنَّه رجع إلى ما كان فيه بل لم يكن الرجوع حينئذٍ يُجديه بعد اللتيا والتي حيث الخجل من ربِّه العطوف في حقِّه فكان الحلُّ الوحيد للرجوع إلى جنته هو أداء تكاليفه (والخير فيما حدث) لا (الخير في حدوثه). فمادام حدث ما حدث فلا بدَّ من حلٍّ!! فيا ترى ما هو الحل؟ هذا ما سنبيِّنه فيما بعد.
ولأنَّ إبليس نجح في إغوائه لآدم عليه السلام واستطاع أن يخرجه من الجنَّة ويورِّطه في عالم الكثرة والاختلاف صار الدنيا متاعاً للإنسان ووسيلةً لرُقيِّه أو انحطاطه فهو:
متاع الغرور
القرآن الكريم عندما يريد أن يميِّز بين الآخرة والدنيا يُطلق كلمة المتاع على الحياة الدنيوية:
(زين للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب)(١٥٨).
فتلك الأمور كلُّها هي متاع الحياة الدنيا وقال تعالى:
(وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع)(١٥٩).
ومن ناحية أخرى يوصف الدنيا بأنَّها متاع الغرور:
(وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)(١٦٠).
قال صاحب المفردات "الراغب الإصفهاني" في معنى كلمة الغرور:
(غرر: يقال غررت فلانا" أصبت غرته ونلت منه ما أريده والغرة غفلة في اليقظة والغرار غفلة مع غفوة.. فالغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين وبالدنيا لما قيل الدنيا تغر وتضر وتمر).
وعندما يبيِّن القرآن الكريم كيفيَّة إغواء الشيطان يقول:
(واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا)(١٦١).
(يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا)(١٦٢).
وبالنسبة إلى إغوائه آدم وحواء قال:
(فدلاهما بغرور)(١٦٣).
ومن هنا نشاهد أنَّه تعالى يخاطب رسوله:
(لا يغرنَّك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد)(١٦٤) (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين)(١٦٥) (لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا)(١٦٦).
النفس الأمّارة
وليُعلم أن الشيطان وإن كان هو العدوُّ المبين ولكن النفس الأمارة هي أعدى عدوّ الإنسان كما ورد في الرواية:
(أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)(١٦٧).
وذلك لأنَّ وساوس الشيطان لها حدٌّ خاصٌ دون الأميال النفسانية فهي خطيرة جداً بل هي مُستمسك قويٌ للشيطان بل الشيطان هو الذي يُغوي النفس ومن خلالها يتسلط على الإنسان.. فالشيطان إذاً لا يُجبِر الإنسان على الشرّ ولا يُحمِّل عليه ذلك بل يتصرف في عقل الإنسان بأساليب مختلفة أهمُّها هذه الأساليب الخمسة:
١ - لأغوينهم.
٢ - لأمنينهم.
٣ - لأزينن لهم في الأرض.
٤ - لآمرنهم.
٥ - لأضلَّنهم.
متاع إلى حين!!
ثمَّ إنَّ القرآن الكريم حينما يتحدَّث عن الهبوط يقول:
(وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين)(١٦٨).
فالاستقرار في الأرض كمتاع ليس هو طوال الدهر بل هو إلى حين منه والحين هو مقطع من الدهر والدهر يتعلَّق بالعالم الذي قبل قيام القيامَّة الذي يشتمل على الزمان والمكان وكلُّ ذلك من عوارض الجسم فلولا الجسم وحدوده وأبعاده لما كان يتحقق مفهوم المكان ولولا المكان لما كان هناك زمانٌ في البين ولهذا نشاهد أنَّ الله سبحانه وتعالى يقول:
(هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا)(١٦٩).
وقد شرحنا ذلك بالتفصيل في تفسيرنا لسورة الإنسان فراجع وأيضاً ينقل سبحانه عقيدةَ الدهريين بقولهم:
(وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون)(١٧٠).
وإن كانت هذه العقيدة باطلة من بنيانها.
ومن هنا نشاهد أنَّه تعالى عندما يتحدَّث عن الحاجات التِّي نفتقر إليها في حياتنا الدنيويَّة يحدِّد صلاحيتها إلى حين
(وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولاهم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين)(١٧١).
(والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين)(١٧٢).
وقد وضَّحنا السر في ذلك (عند شرح معنى الهبوط) وسوف يتَّضح لك في ما بعد إنشاء الله.
فإذاً إلى حين لا يعني إلى يوم القيامة بل يعني إلى يوم ما قبل القيامة لأنَّه عند قيام القيامة كلُّ شيء يتغيَّر فالشمس تتكور والكواكب تنتثر والبحار تتفجَّر.
فهاهنا سؤال يطرح نفسَه وهو متى يتحقق ذلك الحين؟ وهل هناك سبيل للوصول إلى ذلك؟
أقول: نعم هناك سبيل واضح للوصول إلى الجواب وهو الرجوع إلى أمر إبليس بعد إغوائه لآدم وزوجته وذلك لأنَّ حقيقة الدنيا متقوِّمة بإبليس وجنوده فلولاه لما كانت هذه البسيطة التِّي نعيش عليها هي الدنيا بل كانت الجنَّة بعينها كما كانت قبل عصيان آدم عليه السلام وقد شرحنا هذا الأمر بالتفصيل سابقاً فراجع.
وأمّا إبليس فيطلب من الله أن يبقيه إلى يوم يوعدون:
(قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون)(١٧٣) (قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا)(١٧٤).
فكان إبليس عليه لعائن الله يريد البقاء إلى يوم القيامة وهل قبل الله هذا الطلب؟ كلا!! حيث أنَّه تعالى أجابه:
(قال فإنك من المنظرين)
ولكن إلى متى؟؟
(إلى يوم الوقت المعلوم)
فهناك يومٌ موقوت محدَّد لا يُنظر الشيطان بعده ولم تقم القيامة حينئذٍ بعدُ فمادام لم يتواجد الشيطان فلا إغواء يعتري الإنسان نعم هذا لا يعني سلب الاختيار عن الإنسان تماماً بل هناك بعض من الناس الذين لا يزالون يعيشون الكفر والعصيان قطعاً ولكنَّهم غير ممكَّنين في الأرض، فهناك أرضٌ وسماءٌ ولكنَّه لا يُطلَق عليها الدنيا وهو ذلك اليوم الذي وعد الله آدم ليرجعه إلى جنَّته كما في خطبة أمير المؤمنين الآتية وفي هذا اليوم سوف ينتقم الله من جميع الظالمين بالحجَّة عليه السلام وقد ورد في تفسير قوله تعالى: (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين)(١٧٥).
وفي الحديث:
(كنز العمّال روى الحسن بن أبي الحسن الديلمي بإسناده إلى محمد بن على عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عز وجل ا فمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه قال الموعود على بن أبي طالب وعده الله أن ينتقم له من أعدائه في الدنيا ووعده الجنة له ولأوليائه في الآخرة)(١٧٦).
فهناك وعدٌ إلهي سوف يلاقيه الإنسان المؤمن وهو ليس من الحياة الدنيا ولا يتعلَّق بالقيامة فمتى هو إذاً؟
سوف يتضح لك ذلك الزمان الذي يُحقق الله فيه وعده فانتظر.
الفصل السادس: علل الأحكام والتكاليف الإلهيَّة
إنَّ بني آدم وبعد خروجهم من ذلك النعيم المعنوي افتقروا إلى تكاليف ذات أبعاد مختلفة وجوانب شتَّى لكي تعالج جميع الثغرات التي حصلت لهم جراء تلك المشكلة أعنى الهبوط فالله سبحانه بحكمته ولطفه لم يترك آدم وبنوه بحالهم بعد الهبوط بل مادام قد تاب آدم ورجع فلا بد من التفضل عليه وعلى بنيه بالتكاليف المتنوعة من الصلاة والصوم والحج والجهاد ووو..كي ينجوا أنفسهم من الهبوط في دار الدنيا ويرجعوا إلى دار كرامته، فإذاً الحل الوحيد لمثل هذا الإنسان الهابط هو العمل بالتكاليف الإلهية وإن كان الإنسان الهادي لا يفتقر إلى التكاليف للوصول إلى جوار الرب حيث أنه يعيش الجنة ولكن حيث إن التكاليف هي قوانين شاملة ومستوعبة فلا يجوز فيها الاستثناء أصلا فلا بد للكل أن يعملوا بها الهابطون والهداة من غير فرق بينهم.
والجدير بالذكر إن هناك علاقة بين الأكل من الشجرة المنهيَّة التي أدَّت إلى الهبوط وبين التكاليف الإلهيَّة، وهذه العلاقة قد وصلت إلى مستوى العليَّة والمعلوليَّة، وفي علم المعقول هناك أصل ثابت يقول: أنَّ العلَّة والمعلول بينهما سنخيَّة وانسجام كامل بحيث أنَّ المعلول هو الذي يعكس العلَّة تماماً وهو الذي يُظهره عيناً ومن هنا يقال للمعلول المَظهر.
علل الشرائع والأحكام
وعلى هذا الأساس نتمكَّن من معرفة الفلسفة العملية للأحكام والتكاليف المتنوِّعة فكُلُّ الأحكام والتكاليف ترجع إلى ما حدث في تلك الجنَّة (أعني جنَّة آدم)، تلك الحوادث التِّي أدَّت إلى خروج آدم منها ومن ثمَّ ابتلائه بعالم الكثرة كما مرَّ، كما أنَّ العمل بتلك التكاليف هي التِّي تضمن رجوع الإنسان إلى جوار ربِّه.
وقد اعتمد الإمام قدّس سرّه على هذا الأمر اعتماداً أساسياً وتحدَّث عنه في كتبه المختلفة قال إمامنا قدِّس سرُّه في كتاب الآداب المعنوية للصلاة بعد أن نقل الحديث التالي:
(عن معاوية بن عمار عن الحسن بن عبد الله عن أبيه عن جده الحسن بن على بن أبي طالب عليه السلام قال جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال يا محمد أنت الذي تزعم انك رسول الله وإنك الذي يوحى إليك كما أوحى إلى موسى بن عمران فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساعة ثم قال صدقت يا محمد فأخبرني لأي شيء توضأ هذه الجوارح الأربع وهي أنظف المواضع في الجسد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أن وسوس الشيطان إلى آدم ودنا آدم من الشجرة ونظر إليها ذهب ماء وجهه ثم قام وهو أول قدم مشت إلى الخطيئة ثم تناول بيده ثم مسها فأكل منها فطار الحلى والحلل عن جسده ثم وضع يده على أم رأسه وبكى فلما تاب الله عز وجل عليه فرض الله عز وجل عليه وعلى ذريته الوضوء على هذه الجوارح الأربع وأمره أن يغسل الوجه لما نظر إلى الشجرة وأمره بغسل الساعدين إلى المرفقين لما تناول منها وأمره بمسح الرأس لما وضع يده على رأسه وأمره بمسح القدمين لما مشى إلى الخطيئة)(١٧٧).
(عن معاوية بن عمار عن الحسن بن عبد الله عن آبائه عن جده الحسن بن على بن أبي طالب عليه السلام قال جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأله أعلمهم عن مسائل فكان فيما سأله أن قال لأي شيء فرض الله عز وجل الصوم على أمتك بالنهار ثلاثين يوما وفرض على الأمم السالفة اكثر من ذلك فقال النبي صلى الله عليه وآله أن آدم لما أكل من الشجرة بقى في بطنه ثلاثين يوما ففرض الله على ذريته ثلاثين يوما الجوع والعطش والذي يأكلونه تفضل من الله عز وجل عليهم.. قال اليهودي صدقت يا محمد)(١٧٨).
قال الإمام قدس سرُّه:
فمن هذه الأحاديث لأهل الإشارات وأصحاب القلوب استفادات منها إن خطيئة آدم عليه السلام مع أنها ما كانت من قبيل خطايا غيره بل لعلها كانت خطيئة طبيعية أو أنها كانت خطيئة التوجه إلى الكثرة التي هي شجرة الطبيعة أو كانت خطيئة التوجه إلى الكثرة الأسمائية، بعد جاذبة الفناء الذاتي ولكنها ما كانت متوقعة من مثل آدم عليه السلام الذي كان صفيّ الله والمخصوص بالقرب والفناء الذاتي ولهذا أعلن الذات المقدسة وأذاع بمقتضى الغيرة الحبِّية عصيانَه وغوايته في جميع العوالم وعلى لسان الأنبياء عليهم السلام، وقال تعالى: وعصى آدم ربه فغوى.
ومع ذلك، لابد من التطهير والتنبيه بهذه المثابة له ولذريته التي كانت مستكنة في صلبه ومشتركة في خطيئته بل اشتركوا في الخطيئة بعد الخروج من صلبه أيضا فكما أن لخطيئة آدم وأبنائه مراتب ومظاهر فأول مرتبتها التوجه إلى الكثرات الاسمائية وآخر مظهرها الأكل من الشجرة المنهية التي صورتها الملكوتية شجرة فيها أنواع الثمار والفواكه وصورتها الملكية هي الطبيعة وشؤونها، وإن حب الدنيا والنفس اللذين هما موجودين باستمرار في الذرية لمن شؤون هذا الميل إلى الشجرة والأكل منها كذلك لتطهيرهم وتنزيههم وطهارتهم وصلاتهم وصيامهم للخروج من خطيئة الأب الذي كان هو الأصل أيضا مراتب كثيرة مطابقة لمراتب الخطيئة. وقد علم من هذا البيان إن جميع أنواع المعاصي القالبية لابن آدم هي من شؤون أكل الشجرة، وتطهيرها على نحو خاص: وإن جميع أنواع المعاصي القلبية لهم أيضا من شؤون تلك الشجرة وتطهيرها بطور آخر(١٧٩).
وفي موضعٍ آخر نقل الحديث التالي:
(قال اليهودي صدقت يا محمد فأخبرني عن الخامسة لأي شيء أمر الله بالاغتسال من الجنابة ولم يأمر من البول والغائط قال رسول الله صلى الله عليه وآله إن آدم لما أكل من الشجرة دب ذلك في عروقه وشعره وبشره فإذا جامع الرجل أهله خرج الماء من كل عرق وشعره فأوجب الله على ذريته الاغتسال من الجنابة إلى يوم القيامة).
ثمّ قال:
وظاهر هذه الأحاديث وإن كان عند أهل الظاهر هو أن النطفة لما كانت تخرج من جميع البدن فوجب غسل جميعه. وهذا مطابق لرأي جمع من الأطباء والحكماء الطبيعيين ولكن تعليله عليه السلام بأكل الشجرة كما في الحديث الأول ونسبة الجنابة إلى النفس كما في الحديث الثاني يفتح طريقا إلى المعارف لأهل المعرفة والإشارة لان قضية الشجرة وأكل آدم منها من أسرار علوم القرآن وأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، وكثير من المعارف مرموز فيها، ولذا جعلوا عليهم السلام في الأحاديث الشريفة قضية آدم، والأكل من الشجرة علة لتشريع كثير من العبادات ومن جملتها باب الوضوء والصلاة والغسل وصوم شهر رمضان وكونه ثلاثين يوما وكثير من مناسك الحج، وفي نيتي منذ سنين أن أفرد رسالة في هذا الباب ولكن الانشغالات الأخر منعتني عن ذلك، وأسأل الله تعالى التوفيق والسعادة لذلك.
أقول: إنَّ الشجرة هي الأساس في التكاليف إلاّ أنَّ هناك كثير منها يرتبط بما حدث بعد الأكل أو حين الأكل فهناك أحاديث كثيرة تبيِّن أسرار العبادات تُربط هذه العبادات بتلك الحوادث فقد وردت في أسرار الحج أيضا أحاديث كثيرة تدلُّ على ذلك نذكر واحدة منها:
(عن عبد الله ابن سنان قال بينا نحن في الطواف إذ مر رجل من آل عمر فأخذ بيده رجل فاستلم الحجر فانتهره واغلظ له وقال له بطل حجك إن الذي تستلمه حجر لا يضر ولا ينفع فقلت لأبي عبد الله عليه السلام جعلت فداك أما سمعت قول العمرى لهذا الذي استلم الحجر فأصابه ما أصابه فقال وما الذي قال قلت له قال يا عبد الله بطل حجك إنما هو حجر لا يضر ولا ينفع فقال أبو عبد الله عليه السلام كذب ثم كذب ثم كذب أن للحجر لسانا ذلقا يوم القيامة يشهد لمن وافاه بالموافاة ثم قال إن الله تبارك وتعالى لما خلق السماوات والأرض خلق بحرين بحرا عذبا وبحرا أجاجا فخلق تربه آدم من البحر العذب وشن عليها من البحر الأجاج ثم جبل آدم فعرك عرك الأديم فتركه ما شاء الله فلما أراد أن ينفخ فيه الروح أقامه شبحا فقبض قبضه من كتفه الأيمن فخرجوا كالذر فقال هؤلاء إلى الجنَّة وقبض قبضه من كتفه الأيسر وقال هؤلاء إلى النار فأنطق الله عز وجل أصحاب اليمين وأصحاب اليسار فقال أهل اليسار يا رب لما خلقت لنا النار ولم تبين لنا ولم تبعث إلينا رسولا فقال الله عز وجل لهم ذلك لعلمي بما أنتم صائرون إليه وإني سأبتليكم فأمر الله عز وجل النار فأسعرت ثم قال لهم تقحموا جميعا في النار فإني اجعلها عليكم بردا وسلاما فقالوا يا رب إنما سألناك لأي شيء جعلتها لنا هربا منها ولو أمرت أصحاب اليمين ما دخلوا فأمر الله عز وجل النار فأسعرت ثم قال لأصحاب اليمين تقحموا جميعا في النار فتقحموا جميعا فكانت عليهم بردا وسلاما فقال لهم ألست بربكم قال أصحاب اليمين بلى طوعاً وقال أصحاب الشمال بلى كرهاً فأخذ منهم جميعا ميثاقهم وأشهدهم على أنفسهم قال وكان الحجر في الجنَّة فأخرجه الله عز وجل فالتقم الميثاق من الخلق كلهم فذلك قوله عز وجل وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون فلما أسكن الله عز وجل آدم الجنَّة وعصى أهبط الله عز وجل الحجر وجعله في ركن بيته وأهبط آدم عليه السلام على الصفا فمكث ما شاء الله ثم رآه في البيت فعرفه وعرف ميثاقه وذكره فجاء إليه مسرعا فأكب عليه وبكى عليه أربعين صباحا تائبا من خطيئة ونادما على نقضه ميثاقه قال فمن أجل ذلك أمرتم أن تقولوا إذا استلمتم الحجر أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة يوم القيامة..)(١٨٠).
وقد ورد في خصوص فلسفة الطواف حول البيت حديثٌ يُربط هذا التكليف بموضوع خلق آدم إليك نصُّه:
(في علل ابن سنان عن الرضا عليه السلام عله الطواف بالبيت أن الله تبارك وتعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فردوا على الله تبارك وتعالى هذا الجواب فعلموا أنهم أذنبوا فندموا فلاذوا بالعرش واستغفروا فأحب الله عز وجل أن يتعبد بمثل ذلك العباد فوضع في السماء الرابعة بيتا بحذاء العرش فسمى الضراح ثم وضع في السماء الدنيا بيتا يسمى المعمور بحذاء الضراح ثم وضع البيت بحذاء البيت المعمور ثم أمر آدم عليه السلام فطاف به فتاب الله عليه وجرى ذلك في ولده إلى يوم القيامة)(١٨١).
واللطيف ما ورد في سهم الميراث وأنَّ للذكر مثل حظ الأنثيين:
(عن الرضا عن آبائه عن الحسين بن على عليه السلام... وسأله لم صار الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين فقال من قبل السنبلة كان عليها ثلاث حبات فبادرت إليها حواء فأكلت منها حبه وأطعمت آدم حبتين فمن اجل ذلك ورث الذكر مثل حظ الانثيين)(١٨٢).
(على بن محمد عن صالح بن أبي حماد عن الحسين بن يزيد عن على بن أبي حمزه عن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام قال إن الله عز وجل لما أهبط آدم عليه السلام أمره بالحرث والزرع وطرح إليه غرسا من غروس الجنَّة فأعطاه النخل والعنب والزيتون والرمان فغرسها ليكون لعقبه وذريته فأكل هو من ثمارها فقال له إبليس لعنه الله يا آدم ما هذا الغرس الذي لم أكن أعرفه في الأرض وقد كنت فيها قبلك ائذن لي آكل منها شيئا فأبى آدم عليه السلام أن يدعه فجاء إبليس عند آخر عمر آدم عليه السلام وقال لحواء انه قد أجهدني الجوع والعطش فقالت له حواء فما الذي تريد قال أريد أن تذيقيني من هذه الثمار فقالت حواء إن آدم عليه السلام عهد إلي أن لا أطعمك شيئا من هذا الغرس لأنَّه من الجنَّة ولا ينبغي لك أن تأكل منه شيئا فقال لها فاعصري في كفى شيئا منه فأبت عليه فقال ذرينى أمصه ولا آكله فأخذت عنقودا من عنب فأعطته فمصه ولم يأكل منه لما كانت حواء قد أكدت عليه فلما ذهب يعض عليه جذبته حواء من فيه فأوحى الله تبارك وتعالى إلى آدم عليه السلام أن العنب قد مصه عدوى وعدوك إبليس وقد حرمت عليك من عصيره الخمر ما خالطه نفس إبليس فحرمت الخمر لأن عدو الله إبليس مكر بحواء حتى مص العنب ولو أكلها لحرمت الكرمة من أولها إلى آخرها وجميع ثمرها وما يخرج منها ثم إنه قال لحواء فلو أمصصتني شيئا من هذا التمر كما أمصصتنى من العنب فأعطته تمره فمصها وكانت العنب والتمرة أشد رائحة وأزكى من المسك الأذفر وأحلى من العسل فلما مصهما عدو الله إبليس لعنه الله ذهبت رائحتهما وانتقصت حلاوتهما قال أبو عبد الله عليه السلام ثم إن إبليس لعنه الله ذهب بعد وفاه آدم عليه السلام فبال في أصل الكرمة والنخلة فجرى الماء على عروقهما من بول عدو الله فمن ثم يختمر العنب والتمر فحرم الله عز وجل على ذريه آدم عليه السلام كل مسكر لأن الماء جرى ببول عدو الله في النخلة والعنب وصار كل مختمر خمرا لأن الماء اختمر في النخلة والكرمة من رائحة بول عدو الله إبليس لعنه الله)(١٨٣).
هذا:
فلسفة بعث الرّسل
ولم يكتف سبحانه بالتكاليف بل أرسل الأنبياء وبعث الرسل بالهدى ودين الحق كي يرشدوا الناس إلى الله ويحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه، قال تعالى:
(كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)(١٨٤).
إلى أن انتهى أمر الرسالة إلى نبيِّنا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَم فرسول الله كان ذلك النور في عالم الأنوار فمنَّ الله علينا به وجعله في بيت النبوّة وذلك لأجل هداية البشريّة وإخراجهم من الظلمات إلى النور وإرجاعهم إلى الجنَّة التي اخرجوا منه وهو الرجوع إلى الله سبحانه المشار إليه في قوله تعالى: (إنا لله وإنّا إليه راجعون)(١٨٥).
وهو في الواقع:
الغاية من الخلق؟
قد صرَّح القرآن الكريم في موارد كثيرة أنَّ الموجودات الأخر من الجمادات والنباتات والحيوانات وحتَّى الملائكة لم تخلق إلاّ لأجل الإنسان، والقرآن مليء بالآيات الدالَّة على ذلك(١٨٦) نكتفي هاهنا ببعض النماذج فقط:
قال تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم)(١٨٧) (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا..)(١٨٨) (فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون)(١٨٩) (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون)(١٩٠) (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون)(١٩١) (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون)(١٩٢) (الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار)(١٩٣) (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حليه تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون)(١٩٤).
خلق الإنسان
وأمّا بخصوص الإنسان هناك حديث بين المتكلمين:
فقال المعتزلة أنَّ الغاية في إيجاد العباد هو إيصال النفع إليهم وهذا باطلٌ لأنَّه يعني أنَّ الله قد استفاد بفعله واستكمل وهو الكامل فتعالى عن ذلك.
وأمّا الأشاعرة فقد أنكروا الغاية بالمرة وهذا يعني أنَّ الله ليس بحكيم في فعله كيف وكل فعل لا غاية له يكون ناقصا معطَّلا وعبثاً والله سبحانه أجلُّ من أن يصدر منه فعلٌ بلا حكمة.
وأمّا الحكماء الإلهيين يقولون أنَّه لا بدّ من غاية في صنعه تعالى ولكن لا غاية في صنعه وفعله وراء ذاته وذلك لأنَّه هو أجمل من كلِّ جميل وأجل من كل جليل وكل جمال وجلال وكمال ليس هو إلاّ انعكاس من بهاء جماله وظلّ من شمس جلاله ورشحة من بحر كماله فمنظوره ومعشوقه لا يكون إلا ذاته تعالى ولذلك قالوا: العالي لا يلتفت إلى السافل بالذات إلا بالعرض.
ونعم ما قال الشيخ الرئيس أبو على بن سينا:
(لو إن إنسانا عرف الكمال الذي هو واجب الوجود الذي هو فوق التمام ثم فرض أنه منظم العوالم على مثاله، كان غرضه الواجب الوجود فإذا كان الواجب هو الفاعل فهو الغرض لذاته في فعله).
شرحه:
لو أنَّ الإنسان عرف الله سبحانه وتعالى بأنَّه هو الكمال المطلق الذي ليس فيه نقصٌ أصلاً والجمال الحقيقي الذي ليس فيه عيبٌ مطلقاً وكذا سائر الصفات فمن الطبيعي أنَّه لا يطلب غيرَه ولا يرغب إلاّ إليه حيث أنَّ الإنسان يعشق الأكمل والأجمل.
وهذا الكلام بعينه يجري بالنسبة إلى الله تبارك وتعالى فهو الفاعل لجميع الأشياء فماذا ترى يكون الغرض من فعله؟ ليس هناك أي غرضٍ وغاية وراء فعله إلاّ ذاته المُقدَّسة فغايته نفسُه لا شيء خارج عن نفسه تأمَّل.
أقول:
من هذا المنطلق يمكننا أن نصل إلى فلسفة الخلق فلم يخلق الله الإنسان إلاّ لنفسه لا لشيء آخر لأنَّه مهما تصورنا من غايات فهي ناقصة لا يمكن أن يتوجَّه إليها الله أصلاً فكيف تكون هي غاية لفعله يستكمل بها نفسه!!
وهناك شواهدُ كثيرةٌ من القرآن الكريم كذلك الأحاديث الشريفة تدلُّ على ذلك نكتفي هاهنا على سورة الانشقاق الآيات ٦ - ٨ ومن ثمَّ نشير إلى بعض النماذج الأخر من الآيات والروايات لنعطي هذا البحث المهم حقَّه إنشاء الله تعالى:
الرجوع إلى الربّ
القرآن الكريم في هذه السورة يؤكِّد على أنَّ الإنسان سوف يرجع إلى الله قطعاً لأنَّه خلق للبقاء ورجوعه هذا يتحقق بسعي وسرعة فيقول:
(يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا)
وهذا الخطاب عام يستوعب كافَّة الناس على مختلف أديانهم ومذاهبهم حيث أنَّ الكدح إلى الربّ من مقتضيات إنسانية الإنسان لا غير فلم يقل يا أيُّها الذين آمنوا بل قال يا أيُّها الإنسان وهذا الكدح ينطلق من العشق إلى الكمال المطلق الكامن في وجود أيّ إنسان كان، والكمال المطلق يعني الله سبحانه كما أشرنا إليه وشرحناه في مقالاتنا الأخرى.(١٩٥) ومن ناحية أخرى الكلُّ بلا استثناء سوف يصل إلى الغاية والمقصد (فملاقيه) فالنتيجة والغاية واضحة وهي لقاء الرب.
ومن هذا المنطلق نعرف السرّ في خلق الإنسان حيث أنَّه خلق لأجل الوصول إلى أسمى مرتبة وأعلى مستوى وهو الوصول إلى الله والرجوع إليه، وأيَّةُ غاية أخرى غير الرجوع إلى الله مهما كانت فهي غير هادفة ويكون الخلق حينئذٍ عبثاً لا حكمة فيه يقول تعالى:
(أفحسبتم أنمَّا خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون)(١٩٦).
فعدم الرجوع إليه تعالى يعني العبث وتعالى الله عن ذلك فهو المبدأ وهو المنتهى:
(وهو الأول والآخر والظاهر والباطن)(١٩٧) (..الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء أول كل شيء ومصيره ومبدأ كل شيء ومعيده..)(١٩٨).
ملاقاة الجمال وملاقاة الجلال
ثمَّ إنَّ هناك تمايزا رئيسيا بين الملاقِين ربَّهم وذلك التمايز يرجَع إلى كيفيَّة اللقاء فالموحد المؤمن يلاقي ربَّه سبحانه بجماله ورحمته ورأفته وحنانه ولطفه وعفوه وصفحه كما قال تعالى:
(فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا * وينقلب إلى أهله مسرورا)
فيصل في البداية إلى الجنات التي تجري من تحتها الأنهار ثمَّ يترقى إلى جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه وبالأخير يصل إلى الجنَّة التي جاء ذكرها في أواخر سورة الفجر قال سبحانه:
(يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي)
وهذه الجنَّة التّي أضافها سبحانه وتعالى إلى نفسه هي جنّة لقاء الله على حدّ تعبير الإمام قدس سرُّه.
وأمّا الكافر والمُلحد والمنافق فهو يلاقي ربَّه أيضاً ولكن بجلاله وعذابه وسخطه وغضبه وانتقامه لا بعفوه وصفحه كما قال سبحانه وتعالى:
(وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعو ثبورا * ويصلى سعيراً)
فهم يلاقون ربهم حيث يقرُّون بذلك كما قال تعالى:
(ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون)
فهم يرون جهنَّم ويرون النار الملتهبة وهم في محضر جلال الله وغضبه وانتقامه كما قال:
(ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون)
فالنتيجة أنَّ الغاية ترجع إلى الربِّ لا غيره.
(ألا إلى الله تصير الأمور)(١٩٩) (إنا لله وإنّا اليه راجعون)(٢٠٠) (وإنَّ إلى ربك المنتهى)(٢٠١).
ومن هنا نشاهد أنَّه تعالى يقول لموسى (واصطنعتك لنفسي)(٢٠٢).
ولو مررنا على الأدعية المأثورة لأذعنّا بهذه الحقيقة فإليك بعض النماذج المختصرة التِّي صدرت عنهم عليهم السلام:
(لأنَّك غاية أمنيتي ومنتهى بلوغ طلبتي فيا فرحه لقلوب الواصلين ويا حياة لنفوس العارفين ويا نهاية شوق المحبين أنت الذي بفنائك حطت الرحال وإليك قصدت الآمال)(٢٠٣) (يا رباه يا سيداه يا غاية رغبتاه)(٢٠٤) (يا غاية أمل الآملين)(٢٠٥) (يا غاية الطالبين)(٢٠٦) (يا غاية الراغبين ومنتهى أمل الراجين)(٢٠٧).
خُلقنا للبقاء
ولو تدبَّرنا النفس وحالاتها وتجرُّدها لعرفنا أنَّه تعالى لم يخلقها لأن تعيش سنوات ثمَّ تهلك بالمرَّة لأنَّ ذلك خلاف الحكمة الإلهيَّة وخلاف عدالته ومن هنا نشاهد الكثير من الأحاديث تؤكِّد على ذلك:
(عن الحميري عن هارون عن ابن زياد قال قال رجل لجعفر بن محمد عليه السلام يا أبا عبد الله انا خلقنا للعجب قال: وما ذاك؟ اللّه أنت! قال:خلقنا للفناء. فقال: مَه يا بن أخ خلقنا للبقاء وكيف تفنى جنةٌ لا تبيد ونار لا تخمد ولكن قل إنما نتحول من دار إلى دار)(٢٠٨).
أقول: الباقي ليس هو إلاّ وجه الله سبحانه لصريح قوله تعالى: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)(٢٠٩).
فكيف يمكن أن يبقى الإنسان وتبقى الجنَّة والنار؟ وليس ذلك إلاّ لأنَّ الآخرة إنَّما هو وجه الربِّ سواء كان ذلك جلال الرب وغضبه أو جماله ورحمته وإكرامه ومن هنا ذكرت الصفتان (ذو الجلال والإكرام) فالنار والجنَّة منطلقهما هو الصفتان أعني الجلال والإكرام، فجلاله تعالى ظهر في النار كما أنَّ إكرامه ظهر في الجنَّة حيث أنَّها ليست هي إلاّ دار كرامته تعالى وجميع نعمها أيضاً تنطلق من تلك الصفة العظيمة، لا كنعم الدنيا فليست النعم تلك إلاّ ظهوراً لرحمانيته تعالى ومن هنا نلاحظ البونٌ البعيد بين فواكه الدنيا وفواكه الآخرة حيث قال تعالى: (أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم على سرر متقابلين)(٢١٠).
فالرزق المعلوم المختصّ للمخلصين من العباد ليس هو الفاكهة بما هي فاكهة حيث لا قيمة لها مادام قد سخَّرها الله ومنحها للخلق أجمعين في الدنيا الدنيَّة فتأكلها الحيوانات بل حتَّى الكفّار والمشركين، بل الأهميَّة لتلك الصفة الإلهيَّة أعني الإكرام التِّي صبغت تلك الفاكهة صبغةً روحانيَّة فهي ليست متاع كما هو المشاهد في فواكه الدنيا.
ثمَّ إنَّ الآية التالية أيضاً تدلُّ على ما نحن بصدد إثباته ((ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلاّ وجهه له الحكم) وهاهنا يجب التأمُّل في قوله (وإليه تُرجعون) لنعلم معنى بقاء الإنسان وعدم فنائه بالمرَّة لأنَّه سوف يرجع إليه تعالى: (إنَّ إلى ربك الرجعى)(٢١١).
ولو لم نقل برجوع الإنسان إلى ربِّه لما أمكننا أن نتصوَّر بقائه في الجنَّة أو النار خالداً وقد شرحنا هذا الأمر فلا نكرر.
ثمَّ إنَّه من المفروض أن يبقي الإنسان خالداً في جوار رحمة الله لا غضبه ولأجل ذلك خُلق الإنسان وقد صرَّحت الآية التالية بذلك:
(إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)(٢١٢).
والرحمة لها مراتب عديدة من أعلى مراتبها رضوان الله تعالى كما في الحديث التالي:
(علل الشرايع الطالقانى عن عبد العزيز بن يحيى الجلودى عن محمد بن زكريا الجوهرى عن جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه قال سألت الصادق جعفر بن محمد عليه السلام فقلت له لم خلق الله الخلق فقال إن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثا ولم يتركهم سدى بل خلقهم لإظهار قدرته وليكلفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضرة بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد)(٢١٣) (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم)(٢١٤) (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم)(٢١٥).
فالرضوان الإلهي أكبر بنحو مطلق وليست هناك منزلة أعلى وأرقى منه وذلك هو الفوز العظيم.
الرؤية الكونية ورحمة الربّ:
ولا يخفى أنَّ رحمة الله لا تختص بالآخرة بل هي في الدنيا أيضاً فالإنسان الذي لا يعيش الاختلاف والنزاع ولا يعيش كثرات المادة فهو بالفعل مشمول لرحمة الله تعالى لأنَّ حالته النورانيَّة والمعنوية التي اكتسبها تجعله يعيش الذكر الدائم والاطمئنان المستمر (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
والسعادة الحقيقية، وذلك لأنه رغم تواجده في الدنيا يعيش عالم والملكوت بل الجبروت وينزجر من عالم الملك كما قال أمير المؤمنين عليه السلام مخاطباً همّام:
(لولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفه عين شوقا إلى الثواب وخوفا من العقاب عظما)(٢١٦).
ومن هنا نراه يستغفر الله بمجرد توجهه إلى عالم الملك والمادة وإن كان هذا التوجه من غير قصدٍ أو أن التكليف فرض عليه ذلك، كما كان علي عليه السلام حيث كان يحكم بين الناس وهو على كرسيِّ الخلافة والقضاء فالحكم بين الناس أمر لا بد منه ولكن رغم ذلك كان يجعله يعيش في عالم الملك ولو ساعات ومن أجل هذا الأمر كان في قيام الليل وأوقات السحر يبكي حتى يغمى عليه ويتوب كما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(ليران على قلبي وإني لأستغفر الله في كل يوم سبعين مرة)
ثم إنه ليس هناك أي انفصال بين هذه الحالة النورانية ونورانية البرزخ والقيامة بل كلها أمر واحد حيث أن عالم التجرد لا تعتريه الكثرة والتفرق فلا زمان يحكمه ولا مكان يحدُّه فالجنة الحقيقية يعيشها المؤمن وهو على الأرض والنار يعيشها الكافر وهو على الأرض.
العبودية = الرجوع إلى الله = الرحمة الإلهية
ومن خلال ما ذكرنا اتَّضح لك أن العبودية المنصوصة في قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)
تعنى الرجوع إلى الله والعيش في ظل كرامته المستفادة من قوله تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون)
وهي بنفسها الرحمة الإلهية المذكورة في قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)
وقال إمامنا سيِّد الساجدين زين العابدين عليه السلام:
(.. ولم تترك عبادك هملا ولا سدى ولم تدعهم بغير بيان ولا هدى ولم تدعهم إلا إلى الطاعة ولم ترض منهم بالجهالة والإضاعة بل خلقتهم ليعبدوك..)
العبودية الاجتماعية
وما ذكرناه إنما كان على صعيد الفرد لا المجتمع.
(الكافي عدة من أصحابنا عن احمد بن محمد عن ابن أبي نصر عن حماد بن عثمان عن أبي عبيدة الحذاء قال سالت أبا جعفر عليه السلام عن الاستطاعة وقول الناس فقال وتلا هذه الآية ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم يا أبا عبيده الناس مختلفون في أصابه القول وكلهم هالك قال قلت قوله إلا من رحم ربك قال هم شيعتنا ولرحمه خلقهم وهو قوله ولذلك خلقهم يقول لطاعة الإمام)(٢١٧).
وسيتضح لك هذا إنشاء الله تعالى كلام الإمام قدِّس سرُّه حول الغاية من الخلق وللإمام قدِّس سرُّه الشريف كلامٌ لطيف حول غاية أفعال الله تعالى نكتفي بخلاصة ما ذكره في كتابه القيِّم الأربعون حديثاً
قال الإمام رضوان الله تعالى عليه:
(يقول المحققون من الفلاسفة أنَّه لا توجد غاية لأفعال الله سوى ذاته وتجلِّياتها، ولا يمكن أن يكون لذاته المقدَّسة في إيجاد الأشياء هدف آخر وراء ذاته وظهوره وتجليه المقدَّس، لأنَّ أيَّ فاعلٍ لو أوجد شيئاً بغايةٍ غير ذاته (ما وراء ذاته) مهما كانت تلك الغاية، وإن كانت إيصال الفائدة والمثوبة للغير، أو كانت الغاية العبادة والمعرفة أو الثناء والحمد، كان هذا الفاعل مستكملاً بهذه الغاية وكان وجودها بالنسبة إليه أولى من عدمها، وهذا يستلزم النقص والقصور والانتفاع، وهذا محال على الذات المقدس الكامل على الإطلاق، الغني بالذات والواجب من جميع الجهات، فإذاً لا يُستفسَر عن أفعاله ولا يُوجَّه إليه لِمَ (لا يُسأل عمّا يفعل) وأمّا الموجودات الأخرى فإنَّ لها غايات ومقاصد أخرى غير ذاتها (وذلك لأنَّها ناقصة ذاتاً وفعلاً)(وهم يُسألون))(٢١٨).
المطلوب من الإنسان
وقد حان طرح السؤال الرئيسي الذي هو في الواقع الحلقة التِّي تربط أبحاثنا السابقة بما سنتحدَّث عنه فيما بعدُ وهذا السؤال هو:ما هو المطلوب من الإنسان؟ قد ذكر سبحانه وتعالى بصريح القول أنَّه:
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(٢١٩).
فالمطلوب منه إذاً هو العبادة لا شيء آخر والسؤال الذي يطرح نفسه هو:
ماذا تعني العبادة ….هل هي الصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها من الأفعال؟ أم هي شيءٌ آخر ما وراء هذه الأفعال والأقوال؟
أقول:
عندما نلاحظ كلّ هذه الأفعال نشاهد أنَّ هناك أمراً مُشترك يحكمها جميعاً وذلك الأمر المشترك هو النيَّة وينبغي أن تكون تقرُّباً إلى الله ولولا القربة لما أطلق على العمل عبادة أصلاً فإذاً قوام العبادة بالنيَّة ومن الواضح أنَّ النيَّة ليست من الأعمال الجوارحيَّة بل هي حالةٌ قلبيَّة كامنة في نفس الإنسان فإذاً أساس العبادة أمرٌ نفسيٌّ باطنيّ.
ماذا تعني قربةً إلى الله
ولا يخفى معنى هذه الكلمة فهي تعني الوصول إلى الله نفسِه والاستقرار في جواره والابتهاج بلقائه، فهذا الأمر ممكنٌ للإنسان ولولا إمكانه لما طلب منه ذلك ولما ذُمَّ تاركه كما تدلُّ على ذلك الآيات الكثيرة والأحاديث المتواترة ولأهميَّة هذا البحث نجعله في عنوانٍ مستقل فنقول:
لقاء الله:
بعد أن اتَّضح لنا بأنَّ النفس هي نفحة من نفحات الرحمن ومظهر من مظاهره الذي قد تجلَّى فيه الجمال والجلال كما شرحنا سابقاً في تفسير قوله تعالى: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)
وبعد أن عرفنا حقيقة خليفةَ الله، يمكننا أن نعرف المقصود من لقاء الله الذي يتحدَّث عنه سبحانه في كتابه العزيز، وليس هو إلاّ معرفة الله سبحانه بالقلب الذي يتبع معرفة الإنسان لنفسه، ولا ينبغي لنا أن نَصرف جميع هذه الآيات الصريحة عن ظاهرها اعتمادا على فهمنا القاصر وأذهاننا المحدودة المؤطَّرة بأفكار ربَّما هي ليست إلاّ أوهام متلبِّسة بلباس الحقائق تلك الأفكار التِّي جعلت الكثير يحرِّف الكلم عن مواضعه ويُفسِّر القرآن برأيه.
اللقاء في القرآن والسنَّة
ولا يمكننا الوصول إلى هذا المستوى إلاّ بعد أن عرفنا بأنَّه تعالى: (مع كلِّ شيءٍ لا بمقارنة وغير كلّ شيءٍ لا بمفارقة)
فحينئذٍ سوف نعلم أنَّه تعالى هو أوضح من كلِّ شيء حيث أنَّ قوام جميع الأشياء به لأنَّه هو الوجود المطلق الغنيّ بالذات وجميع الوجودات الأخرى فقيرةٌ بالذات إليه (أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني) وبالأحرى ليس هناك إلاّ وجود واحد ظهر في الأشياء والكلُّ تجلِّياته تعالى ومظاهره، والعبد بمقدار معرفته نفسَه وإحساسه فقرَه ومسكنته وأنَّه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حيوةً ولا نشوراً، بنفس المستوى سوف يعرف ربَّه ويصلُ إليه حيث يغفل حينئذٍ عن مشخصاته الفردية وماهيته المحدودة ويعرف أنَّ تلك المشخصات لم تكن إلاّ أوهام فليس وراء الوجود شيءٌ آخر فلا يعشق إلاّ الله ولا يعبد إلاّ الله ولا يريد إلاّ الله فحينئذٍ سوف لا يكون ممن قال تعالى عنهم (..ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط)(٢٢٠) لأنَّه بالفعل قد عرف بأنَّ الله سبحانه بكلِّ شيءٍ محيط فلا يكون في مريةٍ من لقاء ربِّه بل يكون مصداقاً لقوله تعالى (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون)(٢٢١) وهذا سيُّد الشهداء أبو عبد الله الحسين عليه السلام ينادي:
(تركت الخلق طرّاً في هواكا * * * وأيتمت العيال لكي أراكا)
لذَة الوصال ونار الفراق
إنَّ جميع اللذات الدنيوية إنَّما هي ترجع إلى نفس الإنسان فهي التِّي تلتذ وهي التي تبتهج ولكن حيث أنَّ النفس مسجونة في الجسم نراها بواسطة الحواس الخمسة تتعامل مع الأشياء فتنظر إلى الوردة الجميلة فتلتذ من تلك الرؤية فهي في الواقع لا تلتذ من الوردة ولا تريدها كوردة بل النفس تلتذ بالجمال وتحبُّ الجمال فلو فقدت الوردة جمالَها فلا تحبُّها أصلاً، وهكذا بالنسبة إلى كلِّ هالك وآفل، فالمطلوب إذاً هو الجمال والكمال غير المحدود وغير المؤطَّر، وهو الله سبحانه ومن هنا نشاهد النبي إبراهيم ينفي كلَّ آفل وبالأخير يصل إلى الربّ (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكوننَّ من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين)(٢٢٢).
وللإمام في كتابه القيِّم شرح دعاء السحر بيان حول الآية نحيل القرّاء الكرام إلى مراجعة الكتاب(٢٢٣).
فالله سبحانه هو الذي يكون مطلوباً للإنسان وهو الذي يأنس به العارف لا غيره (يا من اسمه دواء وذكره شفاء)(٢٢٤)
ولا يمكن أن يسرَّ العارف إلاّ الله نفسه كما في دعاء الجوشن الكبير:
(يا سرور العارفين يا منى المحبين يا أنيس المريدين يا حبيب التوابين يا رازق المقلين يا رجاء المذنبين يا قرة عين العابدين)(٢٢٥) (يا سرور الأرواح ويا منتهى غاية الأفراح)(٢٢٦).
وعلى ضوء ذلك يمكننا معرفة الأحاديث الكثيرة التِّي تؤكِّد على عبادة الأحرار التي تنبع عن الحبِّ والعشق بالله:
(الطالقاني عن عمر بن يوسف بن سليمان عن القاسم بن إبراهيم الرقى عن محمد بن احمد بن مهدى الرقى عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بكى شعيب عليه السلام من حب الله عز وجل حتى عمى فرد الله عز وجل عليه بصره ثم بكى حتى عمى فرد الله عليه بصره ثم بكى حتى عمى فرد الله عليه بصره فلما كانت الرابعة أوحى الله إليه يا شعيب إلى متى يكون هذا أبدا منك إن يكن هذا خوفا من النار فقد آجرتك وإن يكن شوقا إلى الجنَّة فقد أبحتك فقال إلهي وسيدي أنت تعلم إني ما بكيت خوفا من نارك ولا شوقا إلى جنتك ولكن عقد حبك على قلبي فلست أصبر أو أراك فأوحي الله جل جلاله إليه أما إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران)(٢٢٧).
(وقال أمير المؤمنين وسيد الموحدين صلوات الله عليه ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك)(٢٢٨).
وفي قبال لذَّة الوصال هناك نار الفراق الذي لا يمكن تصوُّر شدته ذكره أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء الكميل.
قال الإمام قدِّس سرُّه (إنَّ دعاء الكميل دعاء عجيب للغاية، بعض فقراته لا يمكن أن تصدر من البشر العادي (إلهي وسيدي ومولاي وربي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك) فمن يمكنه أن يقول هذا الكلام؟ من يمتلك هذا العشق للجمال الإلهي بحيث لا يخاف من النار، لكنَّه يخاف أنَّه إذا دخل النار ينزل من مقامه ويصل إلى مرتبة يُحرم من عشقه؟ إنَّه يصرخ من فراق ذلك العشق بالله المجمر في قلبه الذي لا يعمل عملاً إلا من منطلق ذلك العشق)(٢٢٩).
وقال في كلمة أخرى:
(إنَّ نار جهنَّم مضافاً إلى أنَّها تُحرق الجسم تُحرق القلب (القلب المعنوي) أيضاً فهي تدخل القلب، مع ذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام (فهبني صبرت على عذابك..)!)(٢٣٠).
لقاء الله في القصيدة العرفانيَّة للإمام
ومن هنا يمكننا أن نصل إلى محتوى القصيدة العرفانية التِّي أنشدها الإمام قدّس سرُّه، تلك القصيدة التِّي أهداها إلى الأمَّة الإسلاميَّة نجله السيد أحمد رضوان الله تعالى عليه وذلك بعد وفات الإمام ونحن نحاول أن نشرح البيتَ الأوَّل والثاني منها فحسب قال إمامنا:
(من بخال لبت أي دوست كرفتار شدم * * * جشم بيمار تو را ديدم وبيمار شدم)
يقول الإمام: أنا ابتليت بخال شفتك يا محبوب وقد شرحنا معنى الخال سابقاً فراجع.ونظرت إلى عينك الخمول والعين الخمولة هي التي نوصفها بالغض فهي لا تتصف بالغمض ولا بالفتح وهذه الحالة للعين تُبرِز جمال المحبوب وتضفي من جماله وإنَّما يقصد الإمام من ذلك الجذبات الإلهيَّة وأسرارها التِّي تصل إلى العاشق وتُفهمُه أنَّ معشوقه ومحبوبه مع علمه الكامل بحاله ومعرفته بعبده، مع ذلك فهو يستر على ذنوبه ويتغاضى عن زلاّته.
(غافل از خود شدم وكوس أنا الحق بزدم * * * همجو منصور خريدار سر دار شدم)
ثمَّ يقول الإمام قدِّس سرُّه:
إنِّي قد غفلت عن نفسي وهذه مرتبة راقية جدّاً لا يصل إليها إلاّ الأوحدي والمقصود من كلامه هو أنَّني قد انفصلت عن كلِّ شيءٍ يرجع إلى شخصيتي الموهومة وتباعدت عن كلِّ أمر يمسُّ أنا والأنانيَّةُ رأس كلِّ خطيئة حيث أنَّها تبعدُ الإنسان عن الله وتغمسُه في متاهات الدنيا وآثارها الدنيَّة وزخرفها وزبرجها، فبمقدار إبتعاد الإنسان عن الجانب السفليِّ من نفسه سوف يتقرَّب إلى الجانب العلويِّ منه وهذا يعني تقرُّبه إلى الحقّ المطلق وهو الله سبحانه وتعالى، فحينئذٍ برى نفسَه مظهر تامّ من مظاهر الحق وآية من آياته جلَّ وعلا فينادي أنا الحق ولكن عندما يرجع إلى هويَّته يرى أنَّ هذا النداء والصراخ لم يكن في محلِّه لأنَّه لا زال فقيراً ولا زال ناقصاً فماذا يطلب بعد ذلك؟
يقول إمامنا قدِّس سرُّه: (همجو منصور خريدار سر دار شدم) فحينئذٍ تمنِّيت الموت كما تمنَّي ذلك منصور الحلاج وكنت من المشترين الطالبين للمشنقة لأنَّه رأيت مادام أنَّني محبوس في هذا البدن المادِّي فمن المستحيل أن أصل إلى اللقاء الإلهي وأستقرَّ تحت ولايته إلاّ أن أموت (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين)(٢٣١).
ومن هنا نصل إلى أمر آخر وهو أنَّ العارف لا يمكنه أن يصل إلى لقاء الله الأتَّم إلاّ بعد انفصاله عن الجسم المادِّي ورجوعه إليه تعالى إمّا بالقتل في سبيل الله والوصول إلى الشهادة وإمّا بالموت المتداول حيث الانفصال من عالم الطبيعة (وفي الحديث القدسي من عشقته فقد قتلته ومن قتلته فعلى ديته ومن علي ديته فأنا ديته)(٢٣٢) وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نعرف معنى الآيتين (من كان يرجو لقاء الله فان أجل الله لآتٍ وهو السميع العليم)(٢٣٣) (الذين يظنون أنهم ملاقو ربِّهم وأنَّهم إليه راجعون)(٢٣٤) فتأمَّل فيهما وتدبَّر محتواهما لتعرف أنَّ كلام الإمام إنَّما هو نابع من القرآن الكريم. وفي قبال هؤلاء هناك من لا يرجو لقاء الله وذلك لانغماره في الدنيا التي تُبعده عن تمنِّي الموت كما قال تعالى: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون)(٢٣٥).
والمهمُّ هو العمل طبقاً للشريعة المقدَّسة فهو الذي يجعل المؤمن بالفعل من مصاديق الراجين لقاء الله وقد بيَّن سبحانه ذلك في قوله تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)(٢٣٦).
الرجوع إلى الله
إنَّ المقامات التِّي يصل إليها الإنسان سواء في عالم الملك والدنيا أو الملكوت والبرزخ أو الجبروت والآخرة ليس بينها أيّ اختلاف وتعدُّد بل هي حقيقة واحدة راجعة إلى النفس الإنسانيَّة، ولا يخفي أنَّ النفس لبساطتها وتجرُّدها هي التِّي تُدرك تلك المراتب فالدنيا ليست هي إلاّ إدراك النفس وموقفها بالنسبة إلى المادة كما أنَّ البرزخ ليس هو إلاّ وصول النفس إلى مستوى من الرُقيِّ أو النزول بحيث يمكنها أن تُدرك اللذات أو الآفات ونفس الكلام بالنسبة إلى الجنَّة فلولا النفس وحالاتها لما كانت الدنيا ولا البرزخ ولا الآخرة ولهذا نرى أنَّه تعالى يقول (هم درجات) فالدرجات ترجع إلى الإنسان نفسه وقد ثبت هذا الأمر في محلِّه وليس هنا مجال لشرحه بالتفصيل.
ثُمَّ: مستوى الفرد فأيضاً كان يعيش القرب الإلهي كما شرحنا فلا بدَّ له من الرجوع.
إنَّه كما أن الإنسان على مستوى الفرد كان يعيش القرب الإلهي ولا بدَّ له من الرجوع إلى الله فكذلك على مستوى المجتمع، فغاية المجتمع هي الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، توضيحاً لهذا الأمر ينبغي أن نتحدَّث عن:
الفصل السابع: الغاية من التشريع
العلَّة الغائيَّة
لا يحدث أيُّ شيء في الكون ولا يتحقق أيُّ معلول إلاّ بعد تواجد علته التامَّة وهذا أصل ثابت عقلاً من أراد أن يتطلَّع عليه بالتفصيل فليراجع كتبَ الحكمة المتعالية.
ثمَّ: إنَّه يستحيل تحقق أمرٍ ممكن إلاّ بتواجد علله الأربعة وهي:
الفاعلية - الماديَّة - الصوريَّة - والغائيَّة.
ولا بأس بتوضيح ذلك من خلال ذكر مثال فنقول:
لو أردنا صنع كرسيٍّ خشبي بمواصفات خاصَّة فلا يمكن أن يتحقق ذلك الكرسي بتلك المواصفات إلاّ بتحقق تلك العلل الأربعة: فيلزم وجود نجّارٍ يمثِّل الفاعل لذلك الكرسي فلولا الفاعل لما حدث الفعل، والأخشاب التِّي تمثِّل مادته ولولا المادة لما تواجد الشيء، وصورة الكرسي أعني شكله الخاص المتميِّز عن شكل السرير والباب وغيرهما من الأشياء المصنوعة من الخشب، والغاية من ذلك الكرسي التي هي الجلوس عليه وإلاّ لم يكن الكرسي كرسياً، ومن المعلوم أنَّ العلة الغائية مقدمَّةٌ علماً مؤخرة عيناً كما قيل أوّل الفكر آخرُ العمل، فأوَّل ما يتصوَّره النجّار هو الغاية من الكرسي أعني الجلوس كما أنَّ أوَّل ما يتحقق في الخارج هو الجلوس، ولا يخفى دور العلَّة الغائية في فعل الفاعل فالغاية هي التِّي تدعو الفاعل إلى الفعل ولولاها لم يفعل، ولذا قال الحكماء العلة الغائية علة فاعليةُ الفاعل.
وأيضاً الغاية لها دور رئيسي في كيفيَّة الفعل وكميَّة المادة وكيفيَّة الصورة المنتخبة فالعلَّة الغائية هي التِّي تُخيِّم على سائر العلل وتوِّجهها توجيهاً ينسجم مع الغاية.
الغاية من الدين
الدين بما له من المعنى له علَّة فاعليَّة وهي مؤسِّسُه وشارعُه، وله علَّة ماديَّة وهي محتواه، وله علَّة صورية وهي ما تسمَّي بالشريعة التِّي تتمثَّل في العبادات والنُسُك المختلفة، وهناك علَّة غائيَّة للدين وهو الغرض من الشريعة، فما هي تلك؟ وما هي علَّة بعث الرسل وإنزال الكتب؟
من الطبيعي أنَّه للوصول إلى جواب صحيح ينبغي لنا مراجعة القرآن الكريم، يقول سبحانه:
(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)(٢٣٧) وفي آية أخرى (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً)(٢٣٨).
فالغاية العمليَّة من بعث الرسول هي أن يظهر الله دينه على الدين كلِّه، وهذا لا يمكن إلاّ مع تمكين الدين على كلِّ البسيطة حتَّى لا تكون فتنة ويكون الدين كلُّه لله، وعلى ضوء هذه الغاية يمكننا فهم روح جميع العبادات فالعبادة التِّي لا تنطلق من هذه الغاية لا قيمة لها لأنَّها تكون حينئذٍ عشوائيَّة.
ومن هنا نعرف السرّ في ما سنتحدَّث عنه في خاتمة الحديث بالتفصيل من أنَّ أفضل العبادة هو انتظار الفرج، وهذه الغاية هي الوعد الحسن الذي جاء في قوله تعالى (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين)(٢٣٩) والذي شرحناه سابقاً وأيضاً هي التي يذكرها الله في قوله (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)(٢٤٠).
فإذاً لا يمكننا تفسير الدين تفسيراً صحيحاً ومعرفته معرفةً مستوعبة شاملة إلاّ أن ننطلق من تلك الغاية.
ثمَّ إنَّ هناك مسألة أخرى ينبغي لنا التأمُّل فيها وبالأحرى سؤال مهمٌّ يجب الإجابة عنه وهو:
ماذا يعني ظهور الدين؟ وماذا سيكون بعد ذلك؟
أقول: إنَّ ظهور الدين وتمكينه لا يعني إلاّ حكومة الله على الأرض والاستقرار في جواره تعالى وزوال الشرك به من رأس، الجلي منه والخفيّ (يعبدونني لا يشركون بي شيئاً)(٢٤١) وبعبارة أخرى ظهور الدين يعني:
الرجوع إلى الله
فالهدف من التشريع إذاً هو رجوع المجتمع إلى الله كما أنَّ فلسفة العبادات هي رجوع الإنسان إلى الله والاستقرار في جواره ولا يخفى أنّ كلمة الرجوع لا يمكن إطلاقها إلاّ في موارد خاصَّة قال الإصفهاني في مفرداته في بيان كلمة رجع، الرجوع العود إلى ما كان منه البداء أو تقدير البدء مكاناً كان أو فعلا أو.. فمن الرجوع قوله تعالى: (لئن رجعنا إلى المدينة فلما رجعوا إلى أبيهم ولما رجع موسى إلى قومه وإن قيل لكم ارجعوا فأرجعوا). (إن إلى ربك الرجعى) وقوله تعالى: (ثم إليه مرجعكم) يصح أن يكون من الرجوع كقوله (ثم إليه ترجعون) ويصح أن يكون من الرجع كقوله (ثم إليه ترجعون).
فلا رجوع من غير بداية وحيث أننّا كنّا لله فلابد أن نرجع إليه وذلك على الصعيدين الفردي والاجتماعي، فأساس الأمَّة كانت في جوار الله حيث كان آدم وكانت حواء يعيشان في الجنَّة التِّي شرحنا عنها فلا بد من الرجوع إلى تلك الجنَّة مرَّةً ثانية حيث يظهر الله الدين على الدين كلِّه ولوكره المشركون وهذه الجنَّة هي من جنات الأرض وهي دولة المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف كما ستعرف عند مقايسة تلك الدولة مع جنَّة آدم عليه السلام.
سبيل الوصول إلى تلك الدولة المباركة
ثمَّ إنَّ ههنا سؤالاً وهو:
ما هي الوسيلة التي تجعل الإنسان يتصوَّر تلك الدولة النورانية فيصدِّق بها فيرغب فيها وينتظرها ويحاول تحقيقها؟
أقول: جواباً على هذا السؤال سوف نتحدَّث عن مفردة من أهم المفردات في الشريعة المقدَّسة ألا وهي:
فعند التأمُّل في التكاليف جميعها نرى بأنَّ الجامع بينها هو أمرٌ واحد وهو الذكر فالذكر هو الغاية النظرية لجميع العبادات وهو الحلُّ الوحيد للإنسان الهابط ذلك الإنسان الذي افتقد حالةً معنويةً ساميةً، حيث كان يعيش في جوار ربه عيشةً يأكل من جنته حيث شاء رغداً ويتنعم بنعيمه.
فبعد هبوطه من ذلك المقام ينبغي له (على أقلِّ التقدير) أن لا ينسى ذلك فيكون دائما في ذُكرٍ ممّا كان فيه ولا يغفل عن الله على أيِّ حال ولا تشغله الأموال والأولاد وظواهر الدنيا عن الذكر (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون)(٢٤٢).
وهذا الذكر المستمر سوف يجعله دائماً يتوقع الوصول إلى ذلك المقام ويرغب فيه وينتظره وتبَعاً لذلك سوف يجعله يشمئز وينزجر من الدنيا وزخارفها ويفكِّر في خلاص نفسه منها وهذان الجانبان هما اللذان يُشكِّلان روح جميع المناسك والعبادات. ومن هذا المنطلق صار الذكر هو أفضل من جميع العبادات حيث أنَّه هو روح العبادة!!
ويكفي في إثبات أفضليَّته أنَّ الصلاة التي هي عمود الدين وأهم العبادات لم تشرَّع إلاّ للذكر يقول سبحانه: (إنني أنا الله لا اله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى)(٢٤٣).
وقال تعالى (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون)(٢٤٤).
فالنهي عن الفحشاء والمنكر ليس هو الغاية القصوى من الصلاة بل ذلك يرجع إلى ظاهر الصلاة وللصلاة روح وواقع وهو يتمثَّل في الذِكر وهو أكبر من سائر الجوانب الإيجابيَّة فيها.
والذكر لا بد وأن يصل إلى مستوى بحيث يتولَّى على جميع حركات الإنسان وسكناته ويسيطر على كافة تصرفاته لا في حال أداء الصلاة فحسب بل في جميع الحالات قال تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون)(٢٤٥) وقال تعالى: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا)(٢٤٦).. وقال تعالى: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين)(٢٤٧) ولا يُجدي الذكر القليل المتقطع بل لا بدَّ وأن يكون كثيراً دائماً (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا)(٢٤٨).
هذا وقد بلغت أهمية الذكر عند هبوط بنى آدم إلى مستوى بحيث لا يمكن العيش في الدنيا إلا به ومع الإعراض عنه سوف يبتلى الإنسان بضنك العيشِ وعمى البصيرة (ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى)(٢٤٩).
والجدير بالذكر أنَّ هذه الآية وردت بعد آيات الهبوط وقد مرَّ الحديث عنها فراجع، وفي قبال هذه المعيشة هي الحالة المعنوية التِّي يشير إليها سبحانه بقوله (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)(٢٥٠).
الذكر من أهمّ أدوار الأنبياء؟
مادام قد أثبتنا أنَّ الشريعة ليس هي إلاّ انعكاساً لِما حدث عند خلق آدم وحواء فعلى ضوء ذلك ينبغي لنا أن نفسِّرها فالأنبياء لم يأتوا بالشريعة من قِبَل الله سبحانه إلاّ للتذكير ولإرجاع الهابطين إلى تلك الجنَّة التِّي كان يعيش فيها آدم عليه السلام وهو في جوار ربِّه فليس للأنبياء دورٌ رئيسيٌ غير ذلك وهو نفس السرّ الذي من أجله خلق الإنسان وشرِّعت الشريعة كما مرَّ ذلك.
ذكر أهل البيت هو ذكر الله
من هنا نعرف أهمية ذكر من هم وجه الله الذين بهم يُعرف الله ويُعبد، فمع ذكرهم يتمكن الإنسان أن يذكر الله بل ذكرهم يساوى ذكر الله كيف وهم الذين قال الله فيهم (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجاره ولا بيع عن ذكر الله)(٢٥١) حيث أنَّهم عليهم السلام هم أهل الذكر وقال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(٢٥٢).
(الكافي الحسين بن محمد عن المعلى عن الوشاء عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم الذكر أنا والأئمة عليهم السلام أهل الذكر)(٢٥٣).
وهم تلك النعمة التي يشير إليها سبحانه في قوله (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور)(٢٥٤) والظاهر أنَّ الميثاق هو الأمانة المعروضة على السموات والأرض والجبال تلك الأمانة التِّي حملها الإنسان وقد مرَّ الحديث عنه فراجع.
وعلى ضوئه كلُّ من يذكر الله عزَّ وجلَّ فهو ذاكرٌ لهم لا محالةَ وإلا فهو ليس بذاكرٍ للّه، وقد ورد في الزيارة الجامعة (ذكركم في الذاكرين)(٢٥٥).
فكل ذاكر لله يذكرهم لا محالة حيث أنهم مظهر مشيئته تعالى. وقد ورد في الكافي (عن العدة عن البرقي عن أبيه عن فضالة بن أيوب عن على ابن أبي حمزة قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول شيعتنا الرحماء بينهم الذين إذا خلوا ذكروا الله انا إذا ذكرنا ذكر الله وإذا ذكر عدونا ذكر الشيطان)(٢٥٦).
وقال الفرزدق في قصيدته الميميَّة: (مقدَّمٌ بعد ذكر الله ذكرُهُم…في كلِّ فرض ومختوم به الكلم إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم… أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم).
ذكرهم أجر الرسالة
ولا يخفى أن أجر الرسالة ينحصر في المودة في القربى لقوله تعالى (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودَّة في القربى)(٢٥٧) والمودَّة هي السبيل إلى الربِّ (قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا)(٢٥٨) وليس هو إلاّ الذكر (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين)(٢٥٩) (وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين)(٢٦٠).
أهمية إحياء ذكرهم عليهم السلام
ومن هنا نصل إلى سر التأكيد البالغ على ذكرهم عليهم السلام وأن من ذكرهم أو ذكروا عنده فخرج من عينه ماء ولو مثل جناح البعوضة بنا الله له بيتا في الجنة وقد ورد في الحديث:
(ما المفيد عن ابن قولوية عن القاسم بن محمد عن على بن إبراهيم عن أبيه عن جده عن عبد الله بن حماد الأنصاري عن جميل بن دراج عن معتب مولى أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول لداود بن سرحان يا داود ابلغ موالى عنى السلام وإني أقول رحم الله عبدا اجتمع مع آخر فتذاكر امرنا فان ثالثهما ملك يستغفر لهما وما اجتمع اثنان على ذكرنا إلا باهى الله تعالى بهما الملائكة فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر فان في اجتماعكم ومذاكرتكم أحياؤنا وخير الناس من بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا).
وأنت ترى بأنَّ الإمام عليه السلام يطلق الكلمة (الذكر) من غير تقييد حيث يقول (فاشتغلوا بالذكر) ومع ذلك يُطبِّقه على ذكرهم عليهم السلام وهذا دليل على عدم انفصال ذكرهم عن ذكر الله تعالى.
ولا يخفى أنَّ ذكرهم عليهم السلام لا يعني الحديث عن سيرتهم من تاريخ ولادتهم وشهادتهم وبيان مناقبهم فحسب، بل الأحاديث تؤكِّد على ذكر أمرهم والأمر له الأهمية القصوى كما سنشرح عنه فيما بعد بالتفصيل ومن هذا المنطلق يطلق عليهم أولوا الأمر ويعبَّر عن بقيَّة الله الحجة بن الحسن عليه السلام ولي الأمر وإمام الأمر.
فذكرُهم عليهم السلام يعنى ذكر ما سيتحقق من أمرهم ودولتهم تلك الدولة المرتقبة وهي دولة المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
وقد ورد في تفسير قوله تعالى (وذكرهم بأيام الله) (العطار عن سعد عن ابن يزيد عن محمد بن الحسن الميثمي عن مثنى الحناط قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول أيام الله ثلاثة يوم يقوم القائم ويوم الكره ويوم القيامة)(٢٦١).
وأيضاً قد ورد في زيارة الجامعة الكبيرة (ويردَّكم في أيّامه) وهي أيّام الله.
والحاصل: أن فلسفة جميع العبادات تكمن في أمرٍ واحدٍ وهوا لذِكر البنَّاء الذي يجعل الإنسان منتظراً لأيّام الله ومشتاقاً إليها ومتوقِّعاً حصولها والعيش في ظلِّها ومن ثمَّ رفض كلِّ ما يُشغله عن الذكر، ولا يصح إطلاق كلمة الذكر إلاّ مع فقد تلك الحالة المعنوية التِّي لا بدَّ للإنسان من إرجاعها في ذاكرته إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي يرجع الكل فيه إلى الله تعالى (إنّا لله وإنّا إليه راجعون) وذلك حينما يعيش الإنسان مرَّةً أخرى في جنته التِّي أُخرج منها وقال عليٌّ عليه السلام بشأن تلك الجنّة (ثم اسكن سبحانه آدم داراً أرغد فيها عيشه وآمن فيها محلته وحذَّره إبليس وعداوته، فاغتره عدوُّه نفاسةً عليه بدار المُقام ومرافقةِ الأبرار فباع اليقين بشكه والعزيمةَ بوهنه واستبدل بالجدل وجلاً وبالاغترار ندما ثم بسط الله سبحانه له في توبته ولقّاه كلمة رحمتِه ووعده المردَّ إلى جنتِه فأهبطه إلى دار البليةِ وتناسل الذرِّية)(٢٦٢).
الفصل التاسع: يوم الوقت المعلوم
فمتى هو ذلك اليوم؟
الأحاديث في هذا المجال كثيرة وكلُّها تؤكِّد الآية المباركة على أنَّ ذلك اليوم هو قبل يوم القيامة واليوم هو يوم قيام قائم آل محمَّد الحجَّة بن الحسن المهدي عجَّل الله تعالى فرجه الشريف فهناك حديث صريح في ذلك نقلَّه المجلسي وكثير من العلماء (موسوعة المهدي).
(روى السيد على بن عبد الحميد في كتاب الأنوار المضيئة بإسناده إلى احمد بن محمد الأيادي يرفعه إلى إسحاق بن عمار قال سألته عن إنظار الله تعالى إبليس وقتا معلوما ذكره في كتابه فقال فانك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال الوقت المعلوم يوم قيام القائم فإذا بعثه الله كان في مسجد الكوفة وجاء إبليس حتى يجثو على ركبتيه فيقول يا ويلاه من هذا اليوم فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه فذلك يوم الوقت المعلوم منتهى اجله)(٢٦٣).
ونفس الحديث بتفصيل أوسع قد نقله وهب بن جميع مولى إسحاق: (ومنه عن وهب بن جميع مولى إسحاق بن عمار قال سالت أبا عبد الله عليه السلام عن قول إبليس رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال له وهب جعلت فداك أي يوم هو قال يا وهب أَ تحسب انه يوم يبعث الله فيه الناس إن الله أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا فإذا بعث الله قائمنا كان في مسجد الكوفة وجاء إبليس حتى يجثو بين يديه على ركبته فيقول يا ويله من هذا اليوم فيأخذ بناصية فيضرب عنقه فذلك يوم الوقت المعلوم)(٢٦٤).
نعم هناك أحاديث أخرى تتحدَّث عن خصوص قاتل إبليس أنَّه رسول الله صلى الله عليه وآله أو أمير المؤمنين عليه السلام فراجع(٢٦٥).
والجدير بالذكر ما نقله العلامَّة المجلسي رحمه الله عن السيِّد بن طاووس رضوان الله تعالى عليه حول يوم الوقت المعلوم وهو حديثٌ طويل نذكر قسماً منه كشاهد لما نحن بصدد إثباته: (قال السيد بن طاووس في سعد السعود رأيت في صحف إدريس على نبينا وآله وعليه السلام في ذكر سؤال إبليس وجواب الله له قال رب فانظري إلى يوم يبعثون قال لا ولكنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم فإنَّه يوم قضيت وحتمت أن اطهر الأرض ذلك اليوم من الكفر والشرك والمعاصي وانتخب لذلك الوقت عباداً لي امتحنت قلوبَهم للإيمان وحشوتها بالورع والإخلاص واليقين والتقوى والخشوع والصدق والحلم والصبر والوقار والزهد في الدنيا والرغبة فيما عندي يدينون بالحق وبه يعدلون أولئك أوليائي حقاً اخترت لهم نبيا مصطفى وأميناً مرتضى فجعلته لهم نبيا ورسولا وجعلتهم له أولياء وأنصارا تلك أمة اخترتها للنبي المصطفى وأميني المرتضى ذلك وقت حجبته في علم غيبي ولا بد انه واقع أبيدك يومئذ وخيلك ورجلك وجنودك أجمعين فاذهب فإنك من المنظرين إلي يوم الوقت المعلوم..)(٢٦٦).
واللطيف أنَّه تعالى بعد أن ذكر قضيَّة خلق آدم وسجود الملائكة له وإباء إبليس عن السجود ثمَّ طرده من رحمة الله قال: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين)(٢٦٧).
وفي تفسير هذه الآية الكريمة ورد حديث في الكافي إليك نصُّه: (عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عز وجل قل ما أسألكم عليه من اجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين قال هو أمير المؤمنين عليه السلام ولتعلمن نباه بعد حين قال عند خروج القائم عليه السلام)(٢٦٨).
الأجل المُسمَّى
قال تعالى: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين)(٢٦٩).
وهذه الآية تضاهي الآية ٢١٣ من سورة البقرة حيث قال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)(٢٧٠).
فهناك نوعان من الاختلاف:
١ - من حيث المعاش وهو الذي يتعلق بعالم الدنيا وعالم الكثرة فالله قد رفع هذا الاختلاف من خلال الدين والشريعة.
٢ - الاختلاف في نفس الدين وما تضمنه الكتاب الإلهي من المعارف الحقَّة.. هذا يرجع إلى البغي بين علماء الأديان ولا ينبغي أن يحدث مثل هذا الاختلاف.
فبالنسبة إلى هذا النوع من الاختلاف يقول تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى اجل مسمى لقضي بينهم..)(٢٧١).
والمفروض أن يحكم الله بينهم بإظهار الحق على الباطل وهلاك المبطلين وإنجاء المحقين لكن الكلمة التِّي سبقت منه تعالى هي التِّي منعت من القضاء بينهم.
فما هي تلك الكلمة؟
والكلمة هي قوله تعالى: لما أهبط الإنسان إلى الدنيا (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) (يحيى بن عبد الله بن الحسن عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون) قال نحن هم)(٢٧٢).
النتيجة: دولة الإمام المهدي عجَّل الله تعالى فرجه هي جنَّة آدم عليه السلام
من خلال ما بيَّنّا نستنتج الأمور التالية:
١ - إن الله سبحانه إنّما خلق آدم عليه السلام وأمر الملائكة جميعاً أن يسجدوا له، فلأجل أن يخرجَ من صلبه نور محمَّدٍ وأهلِ بيته عليه وعليهم الصلاة السلام ولذلك ورد في الحديث القدسي لولاك لما خلقت الأفلاك.
٢ - إنَّ الله أسكن آدم وحواء جنته وهي في الأرض حيث كانت تخيم عليها النورانية والمعنوية، وأراد منهما أن يبقيا فيها فيأكلا منها حيث شاءا رغداً ولا يقربا الشجرة فيكونا من الظالمين.
٣ - إنَّ إبليس لأنَّه عصى أمر الله أطرده سبحانه من جوار رحمته فأخذ يوسوس في آدم وزوجته وأراد منهما أن يقربا تلك الشجرة فقربا فبدأت لهما سوآتهما وزالت عنهما تلك النورانية التي كانا فيها وابتلى آدم وذريته بالحياة المادية الخشنة حيث هبط من الجنَّة، وهبوط الإنسان من الجنَّة لا يعني إلاّ زوال تلك النورانيَّة التي كان يمتلكها عندما كان يعيش بجوار ربِّه.
٤ - من أجل سدِّ الثغور التي حدثت جرّاء خروج آدم من الجنَّة شرع الله سبحانه التكاليف الكثيرة والأحكام المتنوِّعة.
٥ - إنَّ الغاية المنشودة من إرسال الرسل وإنزال الكتب هي رجوع بني آدم مرَّةً أخرى إلى جنَّته.
٦ - نجح موسى عليه السلام مرَّة أخرى حيث أرجع بني إسرائيل إلى تلك الجنَّة فكانوا يتظللون بالغمام وتنزل عليهم المن والسلوى ولكنَّهم طمعوا في البقل والقثاء وغيرها من متاع الدنيا فاهبطوا مصراً ورجعوا فيما كانوا عليه من الظلمة.
٧ - استمرَّ الهبوط إلى أن بعث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم فتمكَّن صلوات الله عليه من إرجاع الناس إلى جنَّة آدم إلاّ أنَّ السقيفة أفشلت جميع ذلك فاستمرَّت حالة الهبوط إلى يومنا هذا.
٨ - إنَّ العيش في الدنيا كمتاع ليس هو إلاّ إلى حين والحين إنّما هو مقطعٌ من الدهر داخلٌ فيه لا خارج عنه.
٩ - الدهر يتعلَّق بعالم ما قبل قيام القيامَّة ذلك العالم المشتمل على الزمان والمكان الذين هما من عوارض الجسم والجسماني.
١٠ - إنَّ صلاحية الحاجات التِّي نفتقر إليها في حياتنا الدنيويَّة إنَّما هي إلى ذلك الحين فقط.
١١ - أنَّ أكثر المعاصي ناشئة من وساوس الشيطان فمع هلاكه لا يبتلي عامَّة الناس بالمعصية.
١٢ - قوام الدنيا بالدناءة والرذيلة والمعصية فمع قمع جذورها فلا دنيا وإن كانت هناك أرضٌ وسماءٌ.
١٣ - إنَّ تواجد الإنسان بعد ذلك على الأرض واستقراره عليها لا يعني أنَّه يعيش الحياة الدنيا.
١٤ - الحلُّ الوحيد للرجوع إلى الله والعيش في جواره في ظل رحمته الواسعة هو ذكر الله وذكر رحمته التي كان الإنسان يتنعَّم بها والذكر هو الغاية النظرية لجميع العبادات.
١٥ - إنَّ الذكر هو العامل الرئيسي للرغبة في ما افتقده الإنسان من النورانيَّة التي كان يعيشها في الجنَّة ١٥ - إنَّ الله وعد آدم أن يردَّه إلى جنته كما قال علي عليه السلام: (ثم بسط الله سبحانه له في توبته ولقّاه كلمة رحمته ووعده المرد إلى جنته)(٢٧٣).
١٦ - إنَّ إبليس لا يبقى حيّاً إلاّ إلى يوم الوقت المعلوم وحينئذٍ سوف يقتل.
١٧ - إنَّ يوم الوقت المعلوم هو يوم ظهور الحجَّة عليه السلام.
وخلاصة القول أنَّ الله سوف لا بدَّ وأن يُحيي الأرض بعد موتها إحياءً بالمعنى التام للكلمة، وفي الحديث (عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عز وجل اعلموا إنَّ الله يحيى الأرض بعد موتها يعنني بموتها كفرَ أهلِها والكافرُ ميِّتٌ فيُحييها اللهُ بالقائم فيَعدلُ فيها فتحيى الأرض ويحيى أهلها بعد موتهم)(٢٧٤).
وقد وعد الله تعالى عباده بأنَّهم (لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً)(٢٧٥) وأيضاً قال (ولو انهم أقاموا التوراة والإنجيل وما انزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون)(٢٧٦).
بعض صفات دولة المهدي عليه السلام:
ومع التأمّل في الأحاديث التِّي وردت في توصيف دولة الإمام المهدي عليه السلام نلاحظ أنَّ مواصفات تلك الدولة المباركة لا تتلاءم مع الدنيا التي نعيش فيها بل تنسجم تماماً مع الجنَّة التِّي كان يعيش فيها آدم عليه السلام، فنشير إلى بعض تلك المواصفات:
وصول الإنسان إلى كماله المعنوي
وفي هذا المجال قد وردت أحاديث كثيرة نكتفي ببعضها ففي الكافي بإسناده عن (أبي جعفر الباقر عليه السلام قال إذا قام قائمُنا وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولَهم وكمُلت بها أحلامُهم)(٢٧٧).
ولا يخفى أنَّ وضع اليد على رؤوس العباد كناية عن النظر إليهم نظرة رحيمة بها تفيض النورانيَّة والمعنوية منه عليه السلام عليهم وذلك بعد وصولهم إلى مستوى العبودية التي بها يتمكَّنون من قبول تلك الفيوضات الإلهيَّة، كما أنَّ اجتماع عقولهم يعني وصولهم إلى مرتبة رفيعة من الحذاقة والحكمة بحيث يمكنهم تحمُّل ذلك الأمر كما سيأتي في بيان قولهم عليهم السلام أنَّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ مَلَكٌ مقرَّب أو نبيٌ مُرسَلٌ أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان وفي بعضها أو مدينه حصينة وعندما يسأل الراوي عن المدينة الحصينة يجيبه الإمام الصادق عليه السلام بأنَّها القلب المجتمع وهذه الصفة التي يتصف بها أصحاب الحجَّة عليه السلام ليست من الصفات التي يتمكَّن الإنسان وهو في عالم الطبيعة وسجن الدنيا أن يكتسبها بل هي صفةٌ نورانيَّة وحالةٌ معنويَّة لا يصل إليها إلاّ من هاجر عالم الطبيعة وانتقل إلى عالم المعنى فرجع إلى الله تعالى، وهذا لا ينافى كونه على وجه الأرض لأنَّ عالم المُلك لا يتحكَّم في مثل هذا الإنسان كمّا مرَّ تفصيله.
مشاهدة المؤمنين بعضهم بعضاً:
وفي هذا المجال أيضاً وردت أحاديث كثيرة منها ما ورد في الكافي (عن أبي الربيع الشامي قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول إنَّ قائمنا إذا قام مد الله عز وجل لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى لا يكون بينهم وبين القائم بريد يكلمهم فيسمعون وينظرون إليه وهو في مكانه)(٢٧٨).
والمستفاد من هذا الحديث أنَّ القدرة التِّي تُكتسب آن ذاك ليست هي قدرةٌ ماديَّة يصل إليها الإنسان من منطلق العلم والتكنولوجيا كما يتصوَّر من ليس له إلمام بواقع الشريعة المقدَّسة ويحاول أن يفسِّرَ كلَّ شيء من منظاره المادِّي الضيِّق فيفسِّر مثل هذه الأحاديث بانتشار أجهزة التلفزيون والإنترنت وما شابه ذلك!! بل الأمر فوق مستوى هذه التخيُّلات الباطلة الزائفة إنَّها قدرةٌ إلهيَّة وقوَّةٌ ربّانية تابعة من مبدأ الكون بنحو مباشر ذلك الذي إذا أراد شيئاً يقول له كنْ فيكون ولذلك نلاحظ اختصاصها بخصوص الشيعة كما ورد في الحديث لشيعتنا فهم الذين يهمُّهم هذا الأمر فيتميَّزون بهذه الصفات حيث يسمعونه عليه السلام وينظرون إليه وهو في مكانه من غير بريدٍ ولا يفرق ذلك بين ما إذا كانوا يعيشون في حياةً مدنيَّةً يمتلكون تلك الأجهزة أو كانوا من أهل القرى والبوادي لم يحضوا من الكهرباء فضلاً عن الأجهزة الكهربائيَّة، فالسبب لوصولهم إلى ذلك المستوى في السمع والبصر ليس هو إلاّ كونهم موالين لذلك الإمام روحي له الفداء والسائرين على نهجه القويم.
وأمّا غير الشيعة فلا يصلوا إلى ذلك المقام مهما ارتفعت مستواهم المادي وكثرت إمكانيّاتهم الظاهريَّة، فإذاً هذه الحالة المميَّزة هي حالةٌ معنوية بحتة لا دخل للمادة وعوارضها في ذلك أصلاً ولم يحدث هذا الأمر إلاّ لأنَّ العالم الذي يعيشه المؤمن آن ذاك هو أعلى مستوى من عالم الدنيا الذي هبط فيه آدم وبنوه بل هو جنَّة آدم عليه السلام التي بعث جميع الأنبياء لأجل إرجاع الناس إليها.
وفي حديث آخر عن ابن مسكان قال (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول إنَّ المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق ليرى أخاه الذي في المغرب وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي في المشرق)(٢٧٩).
وهذا الحديث أيضاً يؤكِّد أنَّ الذي سوف يكتسب تلك المواصفات إنّما هو المؤمن لا غيره من الناس وذلك في خصوص زمان القائم عليه السلام فهو يرى أخاه فهذه الرؤية إنّما هي رؤية معنوية نابعة من إيمانه من ناحية وبلوغه ذلك الزمان من ناحيةٍ أخرى.
ثمَّ إنَّ الأخوَّة في ذلك الزمان ليس هي الأخوَّة النسبيَّة الناشئة من الولادة بل هل نوع خاص من الأخوَّة أشار إليها الإمام الصادق عليه السلام في قوله (إنَّ الله تبارك وتعالى آخى بين الأرواح في الأظلَّة قبل أن يخلق الأجساد بألفي عام فلو قد قام قائمنا أهلِ البيت ورث الأخ الذي آخى بينهما في الأظلة ولم يورث الأخ في الولادة)(٢٨٠).
أقول: إنَّ عالم الأظلة هو عالم ما قبل انتقال الروح إلى الجسد وهو ذلك الحين الذي كان الإنسان شيئاً غير مذكور وغير معروف وهو العالم الذي يطلق عليه العرفاء بعالم ألست إشارة إلى قوله تعالى (ألست بربكم قالوا بلى)(٢٨١) تفصيل الحديث عن ذلك العالم يُطلب في محلِّه.
وفي حديث أبي بصير قد ذكر الإمام عليه السلام سرَّ ما قد مرَّ فقال أبو بصير (قال أبو عبد الله عليه انه إذا تناهت الأمور إلى صاحب هذا الأمر رفع الله تبارك وتعالى له كل منخفض من الأرض وخفض له كل مرتفع حتى تكون الدنيا عنده بمنزلة راحته فأيُّكم لو كانت في راحته شعرةٌ لم يُبصرها)(٢٨٢).
فمع التأمُّل في هذا الحديث نعرفُ نقاطاً كثيرة نشير إلى بعضها، فقوله إذا تناهت الأمور يدلُّ على أنَّ في بداية ظهوره ليس الأمر كذلك وبذلك يمكن تفسير الأحاديث التي ربَّما يُستشمُّ منها خلاف ما نحن بصدد إثباته فهي إنَّما تشير إلى ما قبل أن تستقرَّ الأمور ويُظهر الله الدين على الدين كلِّه، وأمّا بعد ذلك فالحالة تنعكس تماماً فيرجع المجتمع الإيماني بأكمله إلى الله سبحانه وتعالى.
ثمَّ لا تخفى عليك لطافة المناسبة بين قوله عليه السلام إذا تناهت الأمور وبين قوله إلى صاحب هذا الأمر وأمّا قوله عليه السلام رفع الله يدلُّ على أنَّ ذلك أمرٌ إلهي لا تحكمه السنن الماديَّة مضافاً إلى كلمة له في قوله عليه السلام رفع الله تبارك وتعالى له.. وأيضاً خفض له، فهي تشير إلى أنَّ ذلك يختص به عليه السلام فهو الذي يرى الأرض هكذا، وألطف من ذلك كلِّه قوله عليه السلام حتى تكون الدنيا عنده فالدنيا خاصَّة لا الأرض تكون عنده وقدَّ مرَّ تفصيل الفرق بين الدنيا والأرض، كما أنَّ الدنيا لا تكون عند غيره كذلك والحاصل أنَّ هذا الحديث أيضاً يؤكِّد على ما أثبتناه من أنَّ دولة المهدي وإن كانت في الدنيا إلاّ أنَّ الظواهر المُلكيَّة الدنيويَّة لا تأثير لها في حكومته عليه السلام.
التوسعة الزمانيَّة
ففي رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام أنَّه (يمكث على ذلك سبع سنين مقدار كل سنه عشر سنين من سنيكم هذه)(٢٨٣) وفي حديث آخر عن الصادق عليه السلام (يكون سبعين سنة من سنيكم هذه)(٢٨٤).
أقول: اختلاف السنة عن سنين الدنيا يدلُّ أنَّ دولته ليست دولة دنيوية وإن كانت هي على الأرض بل المخيِّمُ على تلك الدولة هو نورٌ إلهيٌّ والمتسلِّطُ على تلك الحكومة معنويَّةٌ ربّانيَّةٌ خارجة عن أطر الزمان والمكان، فمن الواضح حينئذٍ أن تكون سنتها عشر سنين أو سبعين سنة.
ظهور الملائكة والجن للناس
وفي الحديث الطويل الذي ينقله المفضل بن عمر قال: (يا سيدي وتظهر الملائكةُ والجنُّ للناس؟ قال إي والله يا مفضَّل ويخاطبُونهم كما يكون الرجل مع حاشيته وأهله، قلت يا سيِّدي ويسيرون معه؟ قال إي والله يا مفضَّل)(٢٨٥).
ومن المعلوم أنَّه ليس من شأن الملائكة والجن أن يظهروا للناس كافَّة بما أنَّهم في الدنيا يعيشون في هذا العالم المادي لأنَّ الملائكة خُلقوا من نور لا علاقة لهم إلاّ مع من يمتلك النور المعنوي وأيضاً ليس من طبيعة الجن الانسجام مع عامَّة الناس كما هو ثابت في محلِّه.
فإذاً دولة الإمام عليه السلام ليست ضمن الدنيا بل كما أثبتنا هي دولةٌ تحيطها حالةً خاصَّة نورانيَّة خارجة عن إطار المادَّة والماديّات.
ذهاب العاهة وتقوية القلوب
نقل الشيخ الصدوق في كتابه الخصال: (عن ابن الوليد عن الصفار عن الحسن بن على بن عبد الله بن المغيرة عن العباس بن عامر عن ربيع بن محمد عن الحسن بن ثوير بن أبي فاختة عن أبيه عن على بن الحسين عليه السلام قال إذا قام قائمنا أذهب الله عز وجل عن شيعتنا العاهة وجعل قلوبهم كزبُر الحديد وجعل قوه الرجل منهم قوة أربعين رجلا ويكونون حكّام الأرض وسنامها)(٢٨٦).
والملاحظ في هذا الحديث نفس ما كان في الأحاديث السابقة حيث نسب الإمام عليه السلام ذهاب العاهة إلى الله مباشرةً فقال أذهب الله عز وجل فهو أمرٌ إلهي غير خاضع للقوانين الطبيعيَّة ومن هنا اختصَّت بالشيعة فحسب عن شيعتنا وأمّا كلمة جَعَل الوارد في الحديث فالظاهر أنَّ المراد منه هو الجعل التكويني لا الجعل التشريعي، وبما أنَّهم وصلوا إلى هذا المرتبة السامية صاروا حكّاماً على الأرض.
ومثل هذا الحديث هو ما ورد في شأن لوط عليه السلام عن (ابن مسرور عن ابن عامر عن عمه عن ابن ابى عمير عن على بن أبي حمزة عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام ما كان يقول لوط عليه السلام (لو أنَّ لي بكم قوة أو آوى إلى ركنٍ شديدٍ)(٢٨٧) إلاّ تمنِّياً لقوة القائم عليه السلام ولا ذَكَر إلا شدة أصحابه فإنَّ الرجل منهم يُعطى قوة أربعين رجلاً وأنَّ قلبَه لأشدَّ من زبر الحديد ولو مروا بجبال الحديد لقطعوها لا يكفون سيوفهم حتى يرضى الله عز وجل)(٢٨٨).
وقد مرَّ أنَّ أهل البيت عليهم السلام بما فيهم المهدي من ولد فاطمة عليهما السلام كانوا معروفين لدى كافة الأنبياء وكذلك دولته المباركة كانت معروفة لديهم. وأمّا الذي يعطيهم هذه القوَّة فهو الله سبحانه بحيث لو مرُّوا بجبال الحديد لقطَّعوها ومن هنا نستنتج بأنَّ الأربعين المذكورة في الحديث إنَّما هي إشارة إلى القوَّة الخارقة للعادة فحسب فهي خارجة عن إطار الجسمانيّات بل هي قوَّة روحانيَّة ملكوتيَّة وليس الكلام فيه مبالغة أصلاً.
نزول البركات والتآلف بين الحيوانات
وفي هذا المجال وردت أحاديث كثيرة نذكر ثلاثةً منها فقد ورد في حديث (تعطى السماء قطرها والشجر ثمرها والأرض نباتها وتتزين لأهلها وتأمن الوحوش حتى ترتعي في طرق الأرض كأنعامهم)(٢٨٩) وفي حديث آخر (عن زيد بن وهب الجهني عن حسن بن على بن أبى طالب عن أبيه صلوات الله عليهما قال يبعث الله رجلا في آخر الزمان.. إلى أن قال.. تصطلح في ملكه السباع وتخرج الأرض نبتها وتنزل السماء بركتها وتظهر له الكنوز يملك ما بين الخافقين أربعين عاماً فطوبى لمن أدرك أيامه وسمع كلامه)(٢٩٠) وقال أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام (ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها ولأخرجت الأرض نباتها ولذهبت الشحناء من قلوب العباد واصطلحت السباع والبهائم حتى تمشى المرأة بين العراق إلى الشام لا تضع قدميها إلاّ على النبات وعلى رأسها زبيلها لا يهيجها سبع ولا تخافه)(٢٩١).
وأنت تلاحظ في هذه الأحاديث خاصَّة الأخير كيف يسود الأمن تلك الدولة المباركة وأيضاً هناك ترابط وانسجام بين الجانب الروحي المعنوي في أصحابه عليه السلام حيث تذهب الشحناء من قلوبهم وبين الجانب المادي من نزول البركات وشمولية الخيرات، فكلُّ المشاكل والآفات التِّي نعيشها نحن منشأها ومنبتها هو الدنيا لا غير قال عليٌّ عليه السلام في خطبته المعروفة في توصيف الدنيا (دار بالبلاء محفوفة وبالغدر معروفة لا تدوم أحوالها ولا يسلم نزالها أحوالٌ مختلفة وتاراتٌ متصرِّفة، العيشُ فيها مذمومٌ والأمان منها معدوم وإنَّما أهلُها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها وتفنيهم بحمامها)(٢٩٢) فمع التخلُّص من الدنيا والرجوع إلى الجنَّة في الأرض نتخلَّص من جميع ألوان العاهات والآفات والخوف والوحشة.
المعجزات والكرامات
كلُّ ما ذكرنا من خصوصيّات حكومة الإمام المهدي روحي لتراب مقدمه الفداء يكمن في أمرٍ واحد وهو أنَّه مؤيَّد من قبل الله بالمعجزات والكرامات فدولته دولة الباطن لا الظاهر ولهذا نشاهد أنَّ لحجر موسى على نبيِّنا وآله وعليه السلام دورٌ مهمٌّ في طعام وشراب أصحاب الإمام المهدي عجَّل الله تعالى فرجه الشريف ففي الحديث المنقول من الخرائج (روى عن أبي سعيد الخراساني عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: إذا قام القائم بمكَّة وأراد أن يتوجه إلى الكوفة نادى مناديه ألا لا يحمل أحدٌ منكم طعاماً ولا شراباً ويحمل حجر موسى الذي انبجست منه اثنتي عشرة عينا فلا ينزل منزلا إلا نصبه فانبجست منه العيون فمن كان جائعا شبع ومن كان ظمآن روي فيكون زادهم حتى ينزلوا النجف من ظاهر الكوفة فإذا نزلوا ظاهرها انبعث منه الماء واللبن دائماً فمن كان جائعا شبعا ومن كان عطشانا روى)(٢٩٣).
نشاهد في الحديث نقاط عظيمة تجعلنا نتيقَّن بما تحدَّثنا عنه من أنَّ مواصفات دولة الإمام المهدي هي نفس جنَّة آدم عليه السلام ونفس الحالة التِّي كان يعيشها بنو إسرائيل قبل هبوطهم مصراً وذلك:
لأنَّهم لا يحملون معهم طعاماً ولا شراباً فماذا يأكلون إذاً؟ إنَّ الحجَّة عليه السلام يحمل حجر موسى ذلك الحجر الذي انبجست منه اثنتى عشرة عيناً كما صرَّح القرآن بذلك.
جاء في كلام الإمام عليه السلام فانبجست منه العيون فمن كان جائعا شبع ومن كان ظمآن روي فهل ذلك العين يروي الضمآن فكيف يُشبع الجائع؟! تأمّل في هذا الحديث ثمَّ قايس بينه وبين قوله تعالى: (إن لك ألاّ تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى)(٢٩٤) الوارد في شأن جنَّة نبيِّنا آدم عليه السلام وتأمَّل أيضاً في قوله تعالى (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين)(٢٩٥) علماً بأنَّ هذه الآية وقعت في تلك الآيات التي تبيِّن حال بني إسرائيل قبل الهبوط وبعد الهبوط.
ثمَّ: إنَّه عليه السلام في قوله فإذا نزلوا ظاهرها انبعث منه الماء واللبن دائما فمن كان جائعا شبعا ومن كان عطشانا روى قد بيَّن صفة الجنَّة حيث أنَّ انبعاث الماء واللبن بنحو دائم ليس أمراً دنيوياً خشناً بل هو أمر معنوي لطيف.
والمستفاد من الحديث أنَّ هذا حال الإمام عليه السلام وأصحابه وهو في بداية ثورته المباركة وقد قام عليه السلام بمكَّة وأراد أن يتوجَّه إلى الكوفة فكيف بعد استقرار حكومته وتمكينه الكامل على الأرض كلِّه!!
ثم: إنَّ الحديث التالي يبيِّن لنا السند الذي يتَّكأ عليه الإمام عليه السلام في حكمه (على بن إبراهيم واحمد بن مهران جميعا عن محمد بن على عن الحسن بن راشد عن يعقوب بن جعفر قال كنت عند أبي إبراهيم عليه السلام وأتاه رجل من أهل نجران اليمن من الرهبان ومعه راهبة فاستاذن لهما الفضل بن سوار فقال له إذا كان غداً فات بهما عند بئر أم خير ….إلى أن قال.. وسأل الراهب عن أشياء لم يكن عند الراهب فيها شيء فاخبره بها ثم إنَّ الراهب قال أخبرني عن ثمانية أحرف نزلت فتبين في الأرض منها أربعة وبقى في الهواء منها أربعة على من نزلت تلك الأربعة التي في الهواء ومن يفسرها قال: ذاك قائمنا ينزله الله عليه فيفسره وينزل عليه ما لم ينزل على الصديقين والرسل والمهتدين..)(٢٩٦).
الخاتمة: أفضل العبادة انتظار الفَرج
من هنا نعرف السرّ في صدور مئات من الأحاديث التِّي تؤكِّد على أنَّ انتظار الفَرَج هو أفضل العبادة وذلك لأنَّ ذكر الله في أعلى مستواه وأرفع درجاته هو ذكر تلك الدولة المباركة التِّي تتصف بجميع مواصفات جنَّة آدم عليه السلام، تلك الدولة التِّي سوف يعيش فيها الإنسان في جوار ربِّه وتحت ظل بارئه وفي ساحتها تتحقق رحمة الربّ التي أشار إليها سبحانه في قوله: (إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)(٢٩٧).
فهي إذاً الغاية العمليَّة لأصل الخلق كما مرَّ وبدونها لا يتصف الخلق بالحكمة أصلاً.
ومن هنا صار من اللازم أن نتحدَّث عن هذه العبادة أعني الانتظار أكثر تفصيلاً وذلك لأهميَّتها من بين سائر العبادات وسوف نبيِّنها ضمن عناوين مختلفة فنقول:
معنى الانتظار في اللغة والاصطلاح
المعنى اللغوي: كلمة الانتظار قد أُشتقت من (نظر) قال صاحب المفردات: (نظر: النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته وقد يراد به التأمل والفحص وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص.....والنظر الانتظار يقال نظرته وانتظرته وأنظرته)
وهناك كلمتان في اللغة معناهما متقاربان مع هذه الكلمة وقد استعملتا في القرآن الكريم أيضاً وهما:
١ - رصد: الرصد الاستعداد للترقب يقال رصد له وترصد وأرصدته له. قال عز وجل: (وإرصاداً لمن حاربَ اللهَ ورسولَه مِن قَبلُ)(٢٩٨).
قال في النهاية: يقال رصدته إذا قعدت له على طريقه تترقبه وارصدت له العقوبة إذا أعددتها وحقيقته جعلتها على طريقه كالمترقبة له. (نقلاً عن الأمالي بإسناده.. قال أمير المؤمنين عليه السلام لأصحابه يوما وهو يعظهم ترصَّدوا مواعيد الآجال وباشروها بمحاسن الأعمال.)(٢٩٩).
وقال عليٌّ في نهج البلاغة (اعلموا عباد الله إن عليكم رصَداً من أنفسكم وعيوناً من جوارحكم وحفاظ صدق يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم لا تستركم منهم ظلمه ليل داج)(٣٠٠).
٢ - رقب: قال تعالى والرقيب الحافظ وذلك إما لمراعاته رقبة المحفوظ وإما لرفعه رقبته قال تعالى: (وارتقبوا إني معكم رقيب)(٣٠١).
وقد وردت أحاديث استعملت فيها هذه الكلمة بمعنى الانتظار.
منها: ما ورد في نهج البلاغة عن عليٍّ عليه السلام قال: (ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات)(٣٠٢).
منها: في كتابه عليه السلام لمحمَّد بن أبي بكر
(ارتقب وقت الصلاة فصلها لوقتها ولا تعجل بها قبله لفراغ ولا تؤخرها عنه لشغل...)(٣٠٣).
ثمَّ إنَّ الراغب الإصفهاني عند بيان مادة (صبر) قال: ويعبر عن الانتظار بالصبر لما كان حق الانتظار أن لا ينفك عن الصبر بل هو نوع من الصبر قال (فاصبر لحكم ربك)(٣٠٤) أي انتظر حكمه لك على الكافرين.
أقول: إنَّ هذا الاستعمال هو استعمال مجازي من باب استعمال اللازم وإرادة الملزوم وهو شائع في كلام العرب.
المعنى الإصطلاحي للانتظار: ويعنى به خصوص انتظار فرج الله الذي هو فرج حجة الله الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي به يكشف الله الغم، ومن هذا المنطلق تُبِعت الكلمة بكلمة الفَرَج الذي هو الانكشاف، وهذا المعنى للكلمة هو المقصود منه في أحاديثنا الشريفة وتشير إليه بعض الآيات القرآنية أيضاً على ما سيأتي.
أهميَّة انتظار الفرج
وعندما نبحث في الأحاديث المختلفة الصادرة عن المعصومين عليهم السلام نستنتج أنَّ الأعمال كلَّها مع في فيها من الأهميَّة والاعتبار فهي في قبال الانتظار قليلة المستوى حيث أنَّ الانتظار هو:
(أفضل الأعمال) (٣٠٥)
بل جميع الأعمال العبادية مع ما لها من القدسيَّة والروحانيَّة فهي ليست راجحة على الانتظار حيث أنَّه (أفضل عبادة الأمَّة)(٣٠٦) والجدير بالذكر أنَّ هذه العبادة أعني الإنتظار قد دخلت في ساحة أهمّ العبادات وهو الجهاد في سبيل الله وصار (أفضل جهاد الأمة) كما في الحديث التالي الصادر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم حيث قال: (افضل جهاد أمتي انتظار الفرج)(٣٠٧).
ومن زاوية عرفانيَّة فللانتظار أيضاً مستوى رفيع من العرفان والروحانيَّة حيث صار (أحبَ الأعمال إلى الله) حتَّى وصل المنتظر إلى مستوى الشهيد في سبيل الله.
(.. قال أمير المؤمنين عليه السلام انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله فان احب الأعمال إلى الله عز وجل انتظار الفرج.... والمنتظر لأمرنا كالمتشحط بدمه في سبيل الله)(٣٠٨).
بل هناك أحاديث تؤكِّد على أنَّ (انتظار الفرج من الفرج) بل (انتظار الفرج من أعظم الفرج).
(...عن محمد بن الفضيل عن الرضا عليه السلام قال سألته عن شيء من الفرج فقال أليس انتظار الفرج من الفرج إن الله عز وجل يقول فانتظروا إني معكم من المنتظرين)(٣٠٩).
وهذا المعنى من الانتظار أعنى انتظار الفرج قد أكتسب قسطاً من القدسية والاعتبار بحيث صار من علائم الإخلاص الحقيقي والتشيُّع الصادق ومن مميزات الدعاة إلى دين الله سراً وجهراً وقد ورد في الحديث (..أولئك المخلصون حقا وشيعتنا صدقا والدعاة إلى دين الله سرا وجهرا..)(٣١٠).
السرُّ في أهميَّة الانتظار
لمعرفة السرّ في ذلك ينبغي لنا أن نتحدَّث بالتفصيل حول واقع الانتظار بذكر مقدَّمة مختصرة فنقول:
إن التقييم في القاموس الإلهي يختلف تماماً عن التقييم في القاموس المادِّي ومن الخطأ جداً محاولة تقييم القضايا المعنوية الراقية والمفاهيم الروحانية السامية بالمعايير الماديَّة حيث أن هناك بونٌ بعيد بينهما بل هما في طرفي النقيض وقد وصل التضادّ بينهما إلى مستوى بحيث لا يمكن أن ينقطع الإنسان إلى المعنويات إلا بالابتعاد الكامل عن المادِّيات وأعنى بالابتعاد عنها هو عدم التوجُّه إليها وعدم انشغال الذهن بها.
هذا: ومفهوم الانتظار أعني انتظار فرجِ الله هو في الواقع يندرج تحت اسم من أسماء الله تعالى أعنى "الكاشف" كما في الدعاء:
(يا صريخ المكروبين ويا مجيب المضطرين ويا كاشف الكرب العظيم)(٣١١) (يا كاشف الغم)(٣١٢) (يا كاشف الكرب العظام)(٣١٣).
وعلى ضوئه صار مفهوم الانتظار مفهوما معنويا إلهياً حيثُ أنَّه لا يمكن لشيءٍ أن يكتسب جانباً معنوياً ويشتمل على بعدٍ مُقدَّس إلاّ بارتباطه بالله سبحانه وبمقدار ظهور اسم الله فيه، فلنترك إذاً الساحةَ المادية ولنبحث عن الأفضلية في الساحة الإلهية المعنوية.
فنقول:
القرب إلى الله ميزان الأفضلية
ثم لا يخفى على كلِّ من آمن بالله سبحانه أنه ليس في القاموس الإلهي إلاّ ميزان واحد، يقاس به الأفضلية وهو الميزان الحقيقي (وهو الحق) وغيره ليست بموازين بل يُترائى أنها موازين فلا حقيقة لها ولا ثِقل فيها قال تعالى:
(والوزنُ يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون)(٣١٤) (ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون)(٣١٥) (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون)(٣١٦).
وهذا الميزان هو: "التقرب إلى الله سبحانه وتعالى" فيجب أن نبحثَ عن مستوى التقرُّب إليه تعالى في الانتظار وعلى ضوءه نقيِّم مستوى قدسيِّة الانتظار، حتَّى نعرف السرَّ في أفضليَّته على سائر الأعمال بل حتَّى العبادات بحيث صار المنتظر كالمتشحِّط بدمه في سبيل الله.
الرجاء بالله
إنَّ من أهم نتائج انتظار الفرج تنميةَ روحيةِ الرجاء بالله في الإنسان المؤمن حيث يُشاهد أمامَه مجالاً وسيعاً من الفضل والكرم والخير الإلهي الذي سوف تظهر مصداقيَّتُها في تلك الدولة العظيمة المباركة وهي دولة المهدي المنتظر صلوات الله وسلامه عليه، تلك الدولة الكريمة التِّي يعزُّ الله بها الإسلام وأهلَه ويذلُّ بها النفاق وأهلَه، ومن الطبيعي لمن يمتلك هذه الرؤية أن يحتقر العالم الذي يعيشه بما فيه من المُغريات الخلاّبة الدنيوية والتسويلات الشيطانية، وهذا الأمر (أعني تحقير المظاهر الدنيويَّة) هو أوَّل خطوة يخطوها السالك إلى الله وهي (التخلية) التِّي تستتبعها (التحلية) ومثل هذا الإنسان المؤمن قد وصل بالفعل إلى مُستوى من العرفان والعبودية بحيث يكون لسان مقالِه حالِه وعملِه هو (صلِّ على محمدٍ وآل محمد وأثبتْ رجائك في قلبي واقطعْ رجائي عمَّن سواك حتى لا أرجو إلا إيّاك..)(٣١٧).
ثمَّ يترقَّى في العبوديَّة فيقول: (بسم الله الذي لا أرجو إلاّ فَضله)(٣١٨) (يا من أرجوه لكل خير)(٣١٩).
هذه الروحية إن تركَّزت في الإنسان المؤمن فسوف تُعمِّق جذورَها فتقمع جميعَ الأشواك والموانع الصادَّة، لتنشرَ فروعَها الطيِّبة وثمارَها الجنيَّة في السماء حتَّى تؤتى أكلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها. فكيف لا يكون الانتظار أفضلَ الأعمال بل أفضل العبادات؟! وهو الذي يُخيِّم على جميع الأعمال ويُلقى الضوء عليها.
أفضل الجهاد
ما هو الأمر المتوقع من المجاهد في سبيل الله حين الجهاد؟ وما قيمة المجاهد لولا النيّةُ الصادقة التي تنصبُّ في سبيل الله؟
هذا الأمر بنفسه بل أعلى مستوى منه متوفِّر في المنتظر الحقيقي الذي يتمنَّى في كلِّ صباحٍ ومساءٍ أن يعيش في ظلِّ ذلك المعشوق روحي لتراب مقدمه الفداء ولسان حاله (..فأخرجني من قبري مؤتزراً كفني شاهراً سيفي مجرداً قناتي ملبياً دعوةَ الداعي في الحاضرِ والبادي..)(٣٢٠) وهو بقربه إلى الله وشهوده مقام ربِّه صار كالمتشحِّط بدمه في سبيل الله شهيداً في سبيل الله، وليس للشهيد خصوصيةٌ كمصداق بل الخصوصية والقيمة لمفهوم الشهادة التي تعني الوصول إلى الله وشهود وجه المحبوب، والمنتظِر يؤدِّي نفس الدور حيث يشاهد وجهَ ربه وهو في نفس الوقت يعايش الناس، وهذه الحالة هي التي تحقِّق فيه الصفاتِ الحسنة التي ذكرت في الأحاديث الشريفة على ما سيأتي عند بيان أخلاق المُنتظِر.
والحديث التالي قد بيَّن السر الذي رفع مستوى الانتظار إلى هذه الدرجة:
(عن أبي حمزة الثمالي عن أبي خالد الكابلي عن على بن الحسين عليه السلام قال تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم والأئمة بعده يا أبا خالد إنَّ أهل زمان غيبته القائلون بإمامته المنتظرون لظهوره افضل أهل كل زمان لان الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والإفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزله المشاهدة وجعلهم في ذلك الزمان بمنزله المجاهدين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بالسيف أولئك المخلصون حقا وشيعتنا صدقا والدعاة إلى دين الله سرا وجهرا وقال: انتظار الفرج من اعظم الفرج)(٣٢١).
وماذا بعد الفرج؟ إلا كشف الكربة عن وجه المؤمن برؤية الواقع والأمر حينما تتحقق تلك الدولة العظيمة التي تملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجَوراً؟
فالانتظار إذاً له نتيجتان:
١ - إنَّه بالفعل يُحقِّق (كشف الكربة) بنحو مجمل.
٢ - إنَّه عاملٌ جذري أساسي للفرج بظهوره سلام الله عليه حيث يسود الحكمُ الإلهي الأرضَ كلّها.
ووِزانُ الانتظار وزانُ النية التي هي خير من العمل حيث جاء في الحديث "نية المؤمن خير من عمله" لأن هذه النية من ناحية هي التِّي ترفع مستوى الإنسان ومن ناحية أخرى تلازم العمل بل توجده (قل كلٌ يعملُ على شاكلته)(٣٢٢).
وليعلمْ أنَّ تعجيل الفرج يتناسب مع الانتظار شدَّةً وضعفاً. ومن هذا المنطلق نشاهد أن الآية الكريمة تصرح بقولها:
(..وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب)(٣٢٣) فقربُ نصر الله متناسبٌ مع طلب النصر (متى نصر الله) وهذا الطلب الأكيد لا يحصل إلاّ بعد اليأس (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين)(٣٢٤).
الانتظار وجانباه الإيجابي والسلبي
إنَّ كلمة الانتظار تدُّل على حالتين كامنتين في روح المنتظر، فمع التأمَّل في هذه الكلمة نشاهد أنَّها تدلُّ على جانبين أساسيين (إيجابيٌ وسلبيٌ) لكل منهما دور مهمّ في معنى الكلمة وهذان الجانبان هما:
١ - الإيجابي: الجانب المطلوب والمحبوب للمنتظِر والمتوقَّع الوصول إليه وهو الخير والبركة وتمكين الدين على الأرض كلِّه فلو لم يتوقع حدوث حالة جديدة وإيجابية في المستقبل فلا مصداقية للانتظار ولا معنى له.
٢ - السلبي: الجانب غير المطلوب وغير المحبوب الذي يتمثَّل في الحالة الفعلية التي يعيش فيها المنتظر تلك الحالة المُؤذية التي يأمل المنتظر أن يتخلَّص منها، فلو كان الوضع الفعلي هو الوضع المطلوب فلا معنى للانتظار إذاً ولا مبرر له.
وبعبارة أوضح: هناك تناسب عكسي بين أمرين هما:
١ - اليأس من الحالة الفعليَّة المعاشَة.
٢ - الرغبة في الحالة المستقبليَّة المتوقعة.
هذا ما يستفاد من نفس الكلمة من دون النظر إلى أي أمرٍ آخر خارج الكلمة وتشهد لهذه الحقيقة الآية الكريمة التِّي وردت في هذا المجال حيث المعنى والسياق وحيث الأحاديث الدالَّة على ذلك:
قال تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون)(٣٢٥).
فالآية الكريمة تشير إلى الجانبين المتواجدين في نفس المضطر:
١ - سوءٌ غير مكشوف وهو السوء المطلق الذي من خلاله حدثت سائر مصاديق السوء وهذا السوء يتمثَّل في أمرٍ واحد وهو أنَّ خلافة الأرض ليست بيد المُضطَر.
٢ - وهناك توقُّع ورجاء ورغبة كامنة في نفس المضطر وهي أن تكون الخلافة العامَّة على جميع الأرض له ولمن يقتدي به ويخطو خطاه.
وأمّا الحديث عن شخصيَّة المضطر وأنَّه من هو؟ فهو خارج عن بحثنا ههنا ولكن قوله تعالى (ويجعلَكم خلفاء الأرض) يُنبأنا عن حقائق كثيرة لعلَّنا شرحناها فيما بعد.
فلا يمكن للمؤمن ممارسةُ عمليةِ الانتظار إلاّ بعد عرفان أمرين متلازمين:
الأول: وهو الأصل والأهم ويتمثَّل في معرفة تلك الخلافة الإلهيَّة وهذا هو التولِّي.
الثاني: وهو تابعٌ وملازم للأصل وهو معرفة السوء الذي يتمثَّل في الواقع الفعلي ومن ثمَّ التبرِّي منه.
وكلا الأمرين يفتقران إلى الوعي والتدبُّر والدقَّة فنقول:
إنَّه من الأفضل أن نبدأ بالأمر الثاني أعني معرفة السوء ورفضه تحت عنوان الانتظار والرفض ثمَّ نتحدَّث عن الأمر الأوَّل تحت عنوان الانتظار والرجاء.
الانتظار والرفض
إنَّه من الضروري لمن يعيش حالة الانتظار أن يعرف مدى انحراف الواقع الفعلي عن الحقيقة والصواب وينبغي أن يصل إلى مستوى من الانزجار والتنفُّر بحيث يحسّ بأنَّه بالفعل سجين في هذه الدنيا وبالفعل هو مقيّدٌ بأنواع القيود التِّي لا مفكَّ منها ولا مفرّ إلاّ بظهور المنجي الحقيقي وهو الحجة بن الحسن المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.. وينبغي له أن يشعر بأنَّ المشكلة التِّي يعيشها ليست هي مُشكلةٌ جزئيَّة يمكن التحرِّي عنها والتخلُّص منها بسهولة بل هي مُشكلةٌ كبيرة ومعضلةٌ عظمى قد رسَّخت جذورَها في جميع الأرجاء ونشرت سمومَها في كافة الأنحاء، فنحن عندما نلاحظ المجتمع نري أنّ أبشع أنواع الظلم يسوده فلا حرية فكرية تحكم الناس ولا إرادة يمارسونها وإن كانوا يتصورون أنهم أحرار.
فعلى سبيل المثال نشاهد أنَّ الأجهزة الإعلامية العالميَّة تجسِّد الباطل وكأنَّه الحقّ وتصوِّر الكذب وكأنه الصدق وكل شيء حول الإنسان مزيَّف ولكنَّه لا يشعر بهذه المشكلة التي وقعت عليه فلا يفكر إذاً في تبديل ما هو عليه من الانحراف والإغفال.
فإذاً للتعجيل في فرجه عليه السلام ولإيجاد الداعي في المجتمع يجب أن ينتشر وعلى الأقلّ الشعور بالمظلوميَّة كي يعلم الإنسان ويحس بكلِّ وجوده بأن الظلم قد شمله هو أيضاً حيث يعيش تحت ظلّ تلك الشجرة الخبيثة التّي أسَّستها السقيفة حيث ظهر الفساد في البرِّ والبحر ومن ثمَّ سوف يفكر في إنقاذ نفسه من هذه المشكلة.
وينبغي للإنسان أن يعرف أنَّه لا محيص ولا مناص إلاّ بتوجُّهه عليه السلام، ومن ثمَّ بظهوره ومباشرته للحلّ بأسلوبه الملكوتي، وعليه أن يدرك هذه الحقيقة بجميع وجوده بروحه ودمه وجسمه وجوارحه بحيث لا تمرُّ عليه ساعة بل لحظة إلا وهو يشعر بفقدان النور وباستيلاء الظلام على الكون وهذه الحالة لا تحصل له إلا بالمعرفة أعنى معرفة الله ومعرفتهم عليهم السلام ودولتهم المباركة فلا بد أن يكون على بصيرة من أمره حيث أن الأعمى لا يمكنه أن يدرك النور مهما شُرِح له، وهذه المعرفة تلازمها معرفة أخرى وهي معرفة أساليب الأعداء الشيطانيَّة ومستوى عداوتهم للحق وانحرافهم عن الواقع وبعدهم عن الله تعالى، وعند وصول المؤمن إلى هذه المرحلة من الوعي والإدراك ينبغي له أن يلتزم بواجب هو من أهمِّ الواجبات ألا وهو التبري من أعداء الله.
ثمَّ إنَّ هذه الحالة النفسية أعني الرفض سوف تكون لها آثار إيجابيَّة في أخلاقه وأعماله تجعله يشتاق إلى ما سيحقَّق من النصر وتمكين الحق وهكذا سوف يزداد الاشتياق إلى أن ينقلبَ إلى قرارٍ حاسمٍ ومن ثمَّ إرادة جدِّية وطلب مؤكَّد وحينئذ سوف يراه المهدي عليه السلام (متى ترانا) ومثل هذا الإنسان سوف يتفاجأ برؤيته عليه السلام فلا يرى نفسَه إلاّ ويعيش دولته العظيمة وظلَّه الملكوتي المبارك (.. ونراك وقد نشرت راية الحق تُرى)
الرفض من العبادات الاجتماعية
إنَّه من النتائج الخبيثة والآثار السيِّئة التي نشأت جرّاء عزل الدين عن المجتمع وفصلة عن الحُكم خلال قرونٍ متواليةٍ، هو تحريف المفاهيم الدينية وتفسيرها تفسيراً مؤطَّراً بإطار الفرد لا يتخطاه قيد أنملة وكأنَّ الدين لا يمسُّ المجتمع بصلة، وهذه الآفة قد تسرَّبت بشدّة في تقييم المفاهيم الأخلاقية الواردة في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، فقد فُسرَّت جميعها أو أكثرها تفسيراً فردياً وكأنها لا علاقة لها بالمجتمع ولا مساس لها بالأمَّة وكأن الغاية من بعث الرسل وإنزال الكتب هو إيصال الأفراد كأفرادٍ إلى الكمال المطلوب ليس إلاّ.
ومن المؤسف أنَّ هذا النوع من التفسير مع غاية بعده عن روح الإسلام صار كالبديهي عند أكثر المسلمين حتى عند علماء الإسلام، وقد تركزت هذه الأفكار في المجتمع - من خلال هؤلاء الجهلة - تركيزاً شديداً بحيث أصبح كلُّ من يخالفها من جملة الشاذِّين عن الدين وفي زمرة المنحرفين عن الصراط المستقيم!! وبالنتيجة من المطرودين والخارجين عن ربقة الإسلام والمسلمين.
هذا والقرآن بصريح العبارة يبيِّن السرّ في بعث الرسل بقوله:
(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز)(٣٢٦).
ومن الواضح أنَّ للحديد الذي هو كناية عن القدرة دورٌ مهم وأساسي في بناء المجتمع فهو الساعد الآخر الذي يضمن تنفيذَ قوانين الدين بعد الإيمان بالله. ولم يكتف القرآن بذلك بل حرَّضَ كافة المؤمنين بالقيام بالقسط فقال:
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله)(٣٢٧).
وعلى ضوئه: ينبغي أن لا ننظر إلى المفاهيم الإسلامية من منظار فردي فحسب بل لا بد أن يكون المنظار الاجتماعي هو الحاكم وهو المخيم على التحليلات الإسلاميَّة والمفاهيم الأخلاقية.
فمثلا: التقوى ليس هو مفهوم أخلاقي فردي فحسب بل هو مفهوم اجتماعي أيضا فهناك تقوى في الإنسان كفرد وهناك تقوى أهمّ وهو التقوى بمفهومه الاجتماعي الذي يرجع إلى الأمة المؤمنة ولكلٍ منهما أثره الخاص به ولكل جزاءه المترتب عليه وثوابه المنسجم معه.
وكذلك مفهوم الإيثار والإخلاص والكرم والجود والغيرة والشجاعة وغيرها من القيم الإنسانية الإسلامية.
نفس الحديث يتأتّى في المفاهيم اللا إنسانية والقيم اللا أخلاقية واللا إسلامية..كالبخل والرياء والنفاق والخيانة والشره والجبن وغيرها من المفاهيم.
نعم هناك بعض المفاهيم (وهي قليلة) يتغلب عليها الجانب الفردي كما أن هناك مفاهيم يتغلب عليها الجانب الاجتماعي، ولكن هذا لا يعني أن نتمسك بها كمفاهيم خاصّة فرديَّة.
والمتأمل في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة سوف يذعن بما قلناه. ولا بأس بذكر مثال واحد فنقول:
مثلا قوله تعالى في سورة الشعراء في ثمان آيات عن لسان الأنبياء (فاتقوا الله وأطيعون)(٣٢٨) وكذلك في سورة الزخرف(٣٢٩)، هو خطاب للمجتمع الذي كانوا يعيشونه، ذلك المجتمع المبتعد عن واقع الدين. وليس الخطاب متوجِّهٌ إلى الأفراد خاصَّةً.
ومن هذا المنطلق نقول لو أن القيم الأخلاقية أو المفاهيم الاعتقادية رسخت في عدد من الأفراد حق الرسوخ ولكن لم تتجسد تلك المفاهيم في الأمة الإسلامية كأمة فهل يجدى ذلك نفعا للأمة؟ وهل يرتفع الضرر عن الأمة؟ من الواضح أن ذلك لا يجلب منفعة للأمَّة كما أنه سوف لا يدفع شراً عنها بل المصيبة سوف تشمل الأفراد أيضا مهما كانوا يتحلَّون بالصلاح والخير قال تعالى:
(فلما نسُوا ما ذكّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون)(٣٣٠) (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصّة واعلموا أنَّ الله شديد العقاب)(٣٣١).
وذلك حيث لا استثناء في القانون الإلهي الذي يتعلَّق بالأمَّة.
بل لو دققنا النظر وتعمقنا في الأمر لوصلنا إلى حقيقة أخرى قد استترت عن الكثير وهي: أنه من الصعب أن نحكم بصلاح فرد وهو يعيش في أمة فاسدة ذلك الفرد الذي لم يوصل نفسَه إلى مستوى القيادة والإشراف على أمَّته أو لم يهجرهم هجراً جميلاً كي يسلم من آفاتهم!!
وربما نستلهم هذا الأمر من الآتيين السابقتين:
فبالنسبة إلى الآية الأولي نلاحظ أنَّ الذين نجَوا هم الذين (ينهون عن السوء) وأمّا الذين ظلموا الذين هم الفسّاق سواء المظهر فسقه أو الساكت عن الجريمة فإنَّ الله قد أهلكهم.
وبالنسبة إلى الآية الثانية نشاهد أنَّ غير الظالمين أيضاً قد شملتهم الفتنة حيث أنَّ استسلامهم للظلم هو ظلمٌ في القاموس الإلهي.
صفات المنتظِر
صفاته الاجتماعية
الأحاديث الشريفة قد ذكرت صفات للمنتظر وهي (الحزن - التسليم - اليأس - وطول السجود وقيام الليل واجتناب المحارم - والدعوة إلى دين الله سراً وجهراً - وحسن العزاء وكرم الصحبة - وحسن الجوار وبذل المعروف وكف الأذى وبسط الوجه والنصيحة والرحمة للمؤمنين وأداء الأمانة إلى البر والفاجر)
ولكن:
على ضوء ما شرحنا ينبغي أن نعرف بأن صفات المنتظر ليست هي صفات فرديَّة فحسب بل ينبغي أن ينطلق الفرد منها في بادئ الأمر لتستوعب كافَّة زوايا المجتمع الذي يعيشه وتتفاعل به الأمَّة حتى تعمُّ فائدتها، فالانتظار وما يترتب عليه من الصبر والحزن وحسن العزاء واليأس ووو.. كلها لا بد أن تتجسد في المجتمع ولا تنحصر في الفرد ومع تجسُّدها في المجتمع سوف يقترب الفرج وينكشف الضرّ إنشاء الله.
الرفض الاجتماعي
وهاهنا وبصريح العبارة نقول:
أنَّ التكليف الرئيسي الذي يُمثِّل أهم التكاليف في عصر الغيبة هو ما أشرنا إليه سابقاً وهو الرفض ولكن هذا التكليف ليس هو تكليفاً فردياً فحسب بل هو تكليفٌ اجتماعي فيلزم على المؤمن أن يكون رفضُه رفضاً ينطلق من منطلق شرعي الهي حتى يتقرب به إلى الله فيكون عبادةً من نمط العبادات الاجتماعية التي تخيِّم على جميع العبادات الفردية.
ولأجل أن يتَّسم الرافض للمجتمع الفاسد بوسامٍ إلهي ينبغي له أن يمارس الأمور التالية:
الأول: البناء الفردي وأعني به السعي للتقرب إلى الله بالتلبس بلباس التقوى الذي هو خير لباسٍ حتَّى يرتفع مستوى رفضه هذا من السلب المطلق الذِّي هو (لا) إلى سلبٍ يتضمَّن إيجاباً. وعندئذ سوف يكون رفضُه رفضاً مقدَّساً له معنى ومفهوم رسالي عميق فليست كلُّ لاءٍ هي بالفعل لاء، بل هذا النمط من اللاء أفضل من ملايين نعم إن صحَّ القياس بينهما.
فهذا الرفض ليس من السكوت المذموم الذي هو حالةٌ سلبيةٌ جوفاءُ تُعرقل الإنسان والمجتمع. كلاّ! بل هو حالةُ صراخٍ ليس مثلها صراخ (ويكفيك نموذجاً سكوت عليٍّ عليه السلام طوال خمسة وعشرين سنة) وهذه الحالة هي الحالة التكاملية التِّي تبني الإنسان وترفع من مستواه إلى الأعلى وتجعله يتكامل شيئاً فشيئاً من دون الوقوف عند حدٍّ.. وكذلك تُنمِّي المجتمع وترفع مستواه وتجعله يعيش عيشة عزيزة لا يتسرب إليها ذلٌّ وهوان ولا تعتريها آفةٌ وخذلان. فلِمَ لا تكون هذه الحالة أفضل العبادة؟ ولِمَ لا يكون أفضل الجهاد؟ ولم لا يصل هذا الإنسان المتحلِّي به إلى مستوى المتشحط بدمه في سبيل الله؟
الصبر:
الثاني: إنَّ هذا الرفض لا يمكن أن يستقرَّ في ضمير الإنسان إلا بعد تعزيزه بخصال حميدة أخرى وهي:
الأول: الصبر
وهذه الصفة هي أهم تلك الصفات لأنَّها في الواقع الضمان لتلك الحالة، والصبر هاهنا يختلف عن الصبر في المواطن الأخرى بل الصبر الحقيقي الذي هو كالأم لسائر المصاديق هو هذا النوع من الصبر حيث اشتماله على جميع أنواع الصبر التي نطقت بها أحاديثنا الشريفة وهي ثلاثة كما في الحديث الذي نقله المحدِّث الكليني قدِّس سرُّه:
(بإسناده عن على عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم الصبر ثلاثة: صبرٌ عند المصيبة، وصبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصية...)(٣٣٢).
وقد ذكرت هذه الرواية درجاتٍ أخروية لكلٍّ من تلك الأصناف الثلاثة
ولكنَّ الصبر الملازم للانتظار قد استوعب هذه المراحل الثلاثة وذلك لأنَّه:
* هناك أعظم مصيبة ابتلى بها المؤمن المنتظر وهي مصيبة فقدان قائده الروحي وإمامه الثاني عشر الحجَّة بن الحسن المهدي عجَّل الله تعالى فرجه الشريف، فهو يعيش حالة اليتم وهذه المعضلة العظمى بطبيعتها تتطلَّب الصبر.
* هناك طاعة تتجسد في التبري من كل ما ومن هو يزاحم هذه الروحيَّة (أعني روحيَّة الانتظار) (فإنهم عدولي إلاّ ربّ العالمين).
* وهناك معاصي محيطة بهذا الإنسان المؤمن إحاطة كاملة، تلك الأمور التي تقصم الظهر من المُغريات المادِّية والتسويلات الشيطانية المنتشرة على مستوى وسيع بحيث لا يلتفت الإنسان يميناً أو يساراً إلاّ وهي بارزة أمامَه خصوصاً في عصرنا الحالي حيث الأقمار الصناعية وحيث الشبكات الدوليَّة مثل الإنترنت والأجهزة الإعلاميّة التّي مهمَّتُها الرئيسي نقل الفساد إلى العالم الثالث.
فالمنتظر للدولة المباركة سوف يعيش كلَّ تلك المغريات طوال حياته فيشاهد بأمّ عينيه أنَّه يسير إلى جهة والعالم بأجمعه يسير إلى جهة أخرى مضادَّة له تماماً ومن ناحية أخرى يشاهد أنَّ جنود الشيطان وأهل الدنيا يمثِّلون السواد الأعظم فهم الملأ الذين يملئون الأعيُن.
ومن المؤسف جدّاً أنَّ أرباب الدنيا ربَّما ينطلقون من منطلق النصيحة والإصلاح والحب في مسيرتهم الباطلة حيث يُترائى أنهّا حركة إصلاحية بل إسلامية يتقرب بها إلى الله، ومن الصعب أن يقتنعوا بخطأهم أو يحتملوا ذلك، ومن الواضح أنَّ هذا الأمر سوف يجعل المؤمن المنتظر الصابر يعيش حالة صعبة أخرى وهي حالة: (الغربة) ولا تتلخَّص هذه الغربة في الغربة الاجتماعية بل هناك غربة أصعب من ذلك ألا وهي الغربة الفكرية والأيديولوجية التي تؤكد عليها الأحاديث الشريفة وتجعلها من صفات وعلائم المنتظر الحقيقي كالحديث التالي:
(..على بن موسى الرضا عليه السلام… قال بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء قيل يا رسول الله ثم يكون ما ذا قال ثم يرجع الحق إلى أهله)(٣٣٣).
الثاني: التصابر
فماذا يفعل إذاً هذا الصابر كي يستمرَّ في صبره ولا يهون؟ لابدّ وأن ينتقل من مرحلة الصبر إلى مرحلة أرقى وهي التصابر كي يخلق الصبر في الآخرين حتَّى ينسجموا معه فيستمرَّ في مسيرته ويصمد في مواقفه حتى تحقق تلك الدولة العالميَّة المباركة، وسورة العصر هي التِّي ترسم الطريق للمؤمنين المنتظرين قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم (والعَصر) أي قسماً بالعصر وربَّما يكون المقصود من العصر في هذه السورة هو عصر الحجَّة عجلّ الله تعالى فرجه الشريف.
أو ما ذكره الإمام قدِّس سرُّه حيث قال: (يقال: أن العصر هو الإنسان الكامل، وهو إمام الزمان سلام الله عليه أي عصارة جميع الموجودات أي قسماً بعصارة جميع الموجودات قسما بالإنسان الكامل) ولا منافاة بين التفسيرين.
(إنَّ الإنسان لفي خُسر) هذا الإنسان الذي قد حُكم عليه بالخسران المطلق هو الإنسان الذي يعيش خارج العصر أي يعيش حالة الغيبة.
والإنسان المذكور هنا يشمل جميعهم (إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) والاستثناء بطبيعته يدلُّ على النُدورة والغربة فالنادر من الناس والقليل منهم يتَّسمون بهذه السمات الأربعة المتوالية والتِّي ترجع بالأخير إلى صفة فاردة وهي (انتظار الفرج) على ضوء ما قدمنا.
إلى متى والجدير بالذكر أنَّ التواصي بالحق والتواصي بالصبر هي حالة ثابتة للمؤمن مادام هو مؤمن.
فمن الأحرى أن يُسأل إلى متى هذا التواصي؟ وفي آخر المطاف هل لمجتمع أن يعيش الراحة والطمأنينة والهدوء؟ وإن كان الجواب سلبياً فأين حكمة الله البالغة وأين لطفه الشامل وأين كرمه الجميل؟
أقول: لابدَّ من وصول الإنسان المؤمن المتَّسم بتلك الصفات إلى مرحلة نهائية وهي مرحلة الكمال، وهي مرحلة العيش في العصر لا خارجه على ما تدلُّ عليه السورة المباركة.
الانتظار والرجاء
قلنا أنَّ هناك بُعدين للانتظار أحدها الرفض والثاني الرجاء وفصَّلنا الحديث في البعد الأوَّل وحان الآن التحدُّث عن البعد الثاني فنقول:
هناك أحاديث تؤكِّد على أنَّ أمر الأئمَّة عليهم السلام هو الشيء المُنتَظَر.
فهل هناك طريقٌ يوصلنا إلى أمرهِم عليهم السلام؟
وهل من السهل أن نعرفَ أمرَهُم؟
أمرُهم صعبٌ مُستَصعَبٌ وردت أحاديث كثيرة جدّاً تؤَّكِّد: (إنَّ أمرَنا صعبٌ مستصعبٌ لا يَحتمله إلا مَلَكٌ مقرَّب أو نبيٌّ مُرسلٌ أو عبدٌ امتَحَن اللهُ قلبَه للإيمان) فلا بدَّ إذاً من التعمُّق في مثل هذه الأحاديث حتَّى نعرف المقصود منها ثمَّ نعرِف كيفيَّة تسهيل هذا الأمر المُستصعب؟
فنقول: الكلام حول هذه الأحاديث يتلخَّص في جانبين:
الأوَّل: من ناحية الصدور:
ويشتمل على:
ألف - مصادر الأحاديث.
ب - المعصومون الذين نقلت عنهم تلك الأحاديث.
ألف - المصادر
نقل الحديث كلٌّ من:
١ - الكليني رحمة الله عليه في كتابه الكافي وقد جعل لذلك باباً مستقلاً وهو باب (فيما جاءَ أنَّ حديثَهم صعبٌ مستصعبٌ)(٣٣٤).
٢ - الشيخ المفيد في إرشاده واختصاصه.
٣ - الصدوق في توحيده وخصاله وأماليه وكتابه معاني الأخبار.
٤ - وأيضاً في كتاب بصائر الدرجات ورجال الكشى.
وكُتبٍ أخرى ذكرها العلامَّة المجلسي في بحاره من أراد الإطلاّع عليها فليراجع.
ب - عمَّن نُقلت
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وكلٍّ من أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام والإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام والإمام أبي جعفر الباقي عليه السلام والإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام.
الثاني: من ناحية الدلالة
ويشتمل على: (عبارات الحديث المختلفة والجمع بينها)
وينبغي لنا أن نَذكر كافة العبارات التِّي صدرت عنهم عليهم السلام في هذا المجال كي نفهم المراد الصحيح من كلامهم بالجمع بينها فنقول:
ألف: أمّا بالنسبة إلى الشيء الذي هو صعبٌ مستصعب:
وردت العبارات التالية:
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله إنَّ حديثَ آل محمد صعب مستصعب) وعن الأئمَّة عليهم السلام (إنَّ أمرَنا..) (إنَّ حديثنا...) (إنَّ علم العالم...) (إنَّ كلامي...)
ب: الأوصاف المختلفة:
وأيضاً بالنسبة إلى أوصاف ذلك الأمر فقد وردت بِصُوَرٍ مختلفةٍ:
أهمُّها:
(عن أبي جعفر عليه السلام قال إنَّ حديثنا صعبٌ أجردٌ ذكوانٌ وَعِرٌ شريفٌ كريمٌ) (..عن الاصبغ بن نباته عن أمير المؤمنين عليه السلام قال سمعته يقول إنَّ حديثنا صعبٌ مستصعبٌ خَشِن مخشوشن)
وفي حديث أبي جعفر عليه السلام يخاطب جابر بن يزيد: (يا جابر حديثنا صعب مستصعب أمرد ذكوان وعِر أَجرد) وأيضاً في حديث أبي الجارود عن الإمام الباقر عليه السلام: (سمعته يقول ان حديث آل محمد صعب مستصعب ثقيل مقنع اجرد ذكوان..) وفي حديثٍ آخر قال الراوي: (قلت فسر لى جعلت فداك قال ذكوان ذكيٌ أبداً قلت أجرد قال طريٌ أبَداً قلت مقنَّع قال مستور) وفي خصوص الكلمة الأخيرة ورد حديث في الكافي: (عن محمد بن يحيى عن احمد بن محمد بن عيسى عن على بن الحكم عن خالد بن نجيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال إنَّ أمرَنا مستور مُقَنَّعٌ بالميثاق فمن هتك علينا أذلَّه الله) ويمكن تقسيم هذه الصفات إلى قسمين رئيسيين:
ألف: صعبٌ مستصعبٌ وعِر خَشِن مخشوشن. ثقيل.
ب: اجرد ذكوان ذكيٌ قال (طري أبداً)
ج: مقنَّع قال مستور.
د: لا يعرفه إلاّ؟
ومن هو الذِّي يَعرِفُ أمرَهم ويُقرُّ به ويُؤمنُ به ويَعيه ويَصبر عليه ويعمل به ويحتمله ويعقله على حسب الروايات؟؟
الأحاديث في هذا المجال تؤَّكِّد على أنَّهم ثلاثة وهم: (مَلَكٌ مقرَّب أو نبيٌ مُرسَلٌ أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان).
ولكن هناك حديث أضاف إلى هذه الثلاثة أمراً رابعاً وهو "مدينة حصينة". وفي بعضها "مؤمن ممتحن" وورد في بعضها "إلاّ من كتب الله في قلبه الإيمان" ووردت صُوَر أخرى وهي: (إلا صدور منيرة أو قلوب سليمة وأخلاق حسنه) (إلا صدور مشرقة وقلوب منيرة وأفئدة سليمة وأخلاق حسنة) (ولا تعي حديثَنا إلا صدور أمينة وأحلام رزينة) (لا يعي حديثنا إلا حصون حصينة أو صدور أمينة أو أحلام رزينة) (لا يعمل به ولا يصبر عليه إلا ممتحن قلبه للإيمان) وفي حديث عمرو بن اليسع عن شعيب الحداد بعد ما نقل ذكر الصادق عليه السلام الصفات الثلاثة وأضاف (أو مدينه حصينة) قال عمرو فقلت لشعيب يا أبا الحسن (وأي شيء المدينة الحصينة قال فقال سالت الصادق عليه السلام عنها فقال لي القلب المجتمع) أقول: ومن خلال الأحاديث السابقة نستنتج النتائج التالية:
١ - إن المعرفة والعمل متلازمتان لا تنفكان أبدا.
٢ - إن هناك تسلسل طولي بين كل من الأمرين:
الف: الإيمان والمعرفة والوعى والتعقل.
ب: الاحتمال (أي التحمُّل) والعمل والصبر على ذلك.
فلا يمكن للإنسان أن يحتمل الصعب المستصعب إلا بعد أن أذعن به وتعرَّف عليه حق المعرفة.
٣ - إن أمرهم عليهم السلام هو شيء مجرد صافٍ نوراني خارج عن عالم الكثرة والمادة (ذكوان أجرد) وبطبيعته يكون (مقنعا) أي مستوراً.
٤ - إن الأمور النورانية مهما كثرت فهي واحدة لتجرُّدها وبساطتها.. فلا تناقض ولا تخالف بين (الحديث والكلام والأمر) مادام كلها تنطلق من ذلك النور بل في الواقع كلُّها ترجع إلى شيءٍ واحد وهو الأمر.
وهناك نتيجة خامسة وهي:
دولة المهدي دولة النور:
إن الصفات المذكورة في الأحاديث للمؤمن الذي يحتمل أمرهم كلَّها صفاتٌ تنبئ عن واقع نوراني قد استولى على ذلك الإنسان المتَّصف بتلك الصفات ككونه ملك مقرب أو نبيٌّ مُرسل أو عبد ممتحن أو صدور منيرة أو قلوب سليمة... الخ وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن الواقع الذي سوف يحققه ولى الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف هو واقع يختلف تماماً عمّا نعيشه نحن في عصرنا الحالي من العيشة المادية الصرفة التي لا تتحلى بالمعنوية والنورانية أصلاً.. وقد مَلئَت هذه الدنيا أفكارَنا وأذهاننا بحيث لم تسمح لنا أن نتصور تلك الدولة تصوراً صحيحاً ناهيك عن التصديق بها كما هي وبالفعل صار هذا الأمر أمراً صعباً مستصعباً علينا.
وعليه:
يتأكد علينا أن نجدد نظرنا في فهم ومعرفة دولة المهدي كي نرغب فيها وننتظرها..
وفي زيارة الجامعة الكبيرة:
(عارف بحقكم مقر بفضلكم محتمل لعلمكم محتجب بذمتكم معترف بكم مؤمن بإيابكم مصدق برجعتكم منتظر لأمركم مرتقب لدولتكم)
وفي زيارة أخرى:
(السلام عليكم يا أئمة الهدى السلام عليكم يا أعلام التقى السلام عليكم يا أولاد رسول الله أنا عارف بحقكم مستبصر بشأنكم موقن بإيابكم مصدق برجعتكم منتظر لأيامكم مرتقب لدولتكم).
الهوامش:
ــــــــــــــــــــــ
(١) يوسف: ٢.
(٢) الواقعة/٧٩:٧٧.
(٣) شرح دعاء السحر ص٧١.
(٤) شرح دعاء السحر.
(٥) الحديث متواتر بين العامة والخاصة راجع:بحار الأنوار ج٢ ص١٠٠ رواية ٥٩ باب١٤ - ج٢ ص٢٨٥ رواية ٢ باب٣٤ - ج ٥ ص ٢١ رواية ٣٠ باب١.
(٦) بحار الأنوار ج ٩٩ ص ٢٠٥ رواية ١٩ باب٣٦.
(٧) الجن/١٨.
(٨) بحار الأنوار ج ٥٠ ص ٦ رواية ٧ باب١ - ج ٧٩ ص ١٩١ رواية ٣٣ باب٩١ - ج ٨٥ ص ١٢٨ رواية ١ باب٢٧ - ج ٨٥ ص ١٣٨ رواية ٢١ باب ٢٧.
(٩) البقره/٣٠.
(١٠) تفسير الكشاف للزمخشري ج١ ص٢٧١.
(١١) يوسف/٣.
(١٢) مريم/١٦.
(١٣) مريم/٤١.
(١٤) مريم/٥١.
(١٥) مريم/٥٤.
(١٦) مريم/٥٦.
(١٧) ص/١٧.
(١٨) ص/٤١.
(١٩) ص/٤٥.
(٢٠) ص/٤٨.
(٢١) الأحقاف/٢١.
(٢٢) بحار الأنوار ج١٠٠ ص١٠٣ رواية١ باب٦.
(٢٣) البقرة/٢٨٥.
(٢٤) النساء/١٣٦.
(٢٥) الأحزاب/٥٦.
(٢٦) الأحزاب/٤٣.
(٢٧) بحار الأنوار ج٦٣ ص٢٧١ رواية ١٥٨ باب٣.
(٢٨) البقرة/٣٠.
(٢٩) الأحزاب/٧٢.
(٣٠) ص/٧٥.
(٣١) ص/٧٥.
(٣٢) شرح دعاء السحر.
(٣٣) مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية ص٩٦.
(٣٤) البقرة/٣٠.
(٣٥) الأنبياء/٢٦، ٢٧.
(٣٦) بحار الأنوار ج ١١ ص ١٠٨ رواية ١٧الباب١ - ج٥٧ ص ٣٦٧ رواية ٤ باب٤ - ج ٦١ ص ٢٩٩ رواية ٧ باب٤٧ - ج ٦٣ ص ٨٣ رواية ٣٨ باب٢ - ج ٩٩ ص ٣٢ رواية ٧ باب٤.
(٣٧) البقرة/٣٠.
(٣٨) البقرة/٣٠.
(٣٩) البقرة/٣١.
(٤٠) بحار الأنوار ج ١١ ص ٤٧١ رواية ١٩ باب٢.
(٤١) بحار الأنوار ج١١ ص١٤٧ رواية١٨ باب٢.
(٤٢) بحار الأنوار ج١١ ص١٤٧ رواية٢٠ باب٢.
(٤٣) البقرة ٣١.
(٤٤) البقرة ٣١.
(٤٥) بحار الأنوار ج ٣٩ ص ٤٨ رواية ١٥ باب٧٣.
(٤٦) بحار الأنوار ج ١١ ص ١٣٧ رواية ١ باب ٢، ج ٢١ ص ٢٢٧ رواية ٦ باب ٢٩، ج ٢٦ ص ٣٣٨ رواية ٤ باب ٨.
(٤٧) الكافي ج ١ ص ٤٤٣ رواية ١٥.
(٤٨) بحار الأنوار ج ١٦ ص ٤٠٦ رواية ١ باب ١٢، ج ٤٠ ص ٢٠ رواية ٣٦ باب ١٩.
(٤٩) بحار الأنوار ج ١٥ ص ٢٤ رواية ٤٣ باب ١، ج ٢٥ ص ٢١ رواية ٣٧ باب ١، ج ٥٧ ص ١٧٠ رواية ١١٦ باب ١.
(٥٠) مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية ص ١٠٥.
(٥١) الكافي ج ١ ص ٤٤١ رواية ٩.
(٥٢) الأعراف ٥٤.
(٥٣) بحار الأنوار ج ١٠٠ ص ١٨٣ رواية ١١ باب ٢.
(٥٤) البقرة ٣٢.
(٥٥) البقرة ٣٣.
(٥٦) الشعراء ٦.
(٥٧) الأنعام ٣٤.
(٥٨) الأنعام ٦٧.
(٥٩) يونس ٧١.
(٦٠) ص: ٦٧.
(٦١) التغابن ٥.
(٦٢) الأعراف ١٠١.
(٦٣) الحجر ٤٩.
(٦٤) الكهف ٧٨.
(٦٥) بحار الأنوار ج ١١ ص ١٤٥ رواية ١٥ باب ٢، ج ٢٦ ص ١٨٣ رواية ٣٨ باب ٦.
(٦٦) بحار الأنوار ج ٣٧ ص ٦٢ رواية ٣١ باب ٥٠.
(٦٧) الكافي ج١ ص٢٠٧ رواية٣.
(٦٨) البقرة ٣٣.
(٦٩) فاطر ٣٨.
(٧٠) الحجرات ١٨.
(٧١) هود ١٢٣.
(٧٢) النحل ٧٧.
(٧٣) الكهف ٢٦.
(٧٤) الجن ٢٦.
(٧٥) قد مرّ في الهامش رقم ٦.
(٧٦) بحار الأنوار ج١٠ ص٢٩ رواية١ باب٢.
(٧٧) الحجر ٢٨، ٢٩.
(٧٨) الإسراء ٨٥.
(٧٩) الكافي ج ١ ص ١٣٤ رواية ٤.
(٨٠) الكافي ج ١ ص ١٣٣ رواية ٣.
(٨١) الأعراف ١١.
(٨٢) الكافي ج ١ ص ١٣٤ رواية ٤.
(٨٣) الكافي ج ١ ص ١٤٥ رواية ٧.
(٨٤) البقرة ٣٤.
(٨٥) طه ١١٦.
(٨٦) الكهف ٥٠.
(٨٧) بحار الأنوار ج٦٣ ص٢٣٤ رواية٧٣ باب٣ - ج٦٣ ص٢٧٣ رواية١٦٠ باب٣.
(٨٨) بحار الأنوار ج ٦٣ ص ٢٣٤ رواية ٧٣ باب ٣.
(٨٩) الكافي ج ٢ ص ٣٨٦ رواية ٨.
(٩٠) الكافي ج ٢ ص ٣١٧ رواية ٨.
(٩١) ص ٧٥.
(٩٢) شرح دعاء السحر ص٢٢.
(٩٣) بحار الأنوار ج١١ ص١٤٢ رواية٩ باب٢.
(٩٤) ص ٧٥ و٧٦.
(٩٥) الحجر٣٢ - ٣٤.
(٩٦) بحار الأنوار ج ٢ ص ٣٠٣ رواية ٤١ باب ٣٤.
(٩٧) بحار الأنوار ج ٢ ص ٢٩١ رواية ١١ باب ٣٤.
(٩٨) بحار الأنوار ج ١٠ ص ٢٢١ رواية ٢٢ باب ١٣.
(٩٩) النمل ١٠.
(١٠٠) بحار الأنوار ج ١٨ ص ٣٨٠ رواية ٨٦ باب ٣.
(١٠١) النجم ٩.
(١٠٢) الكافي ج ٢ ص ٣٣ رواية ٢.
(١٠٣) الكافي ج ١ ص ٣٤ رواية ١.
(١٠٤) الكافي ج ١ ص ٣٨ رواية ٣.
(١٠٥) الإسراء ٦٢.
(١٠٦) البقرة ٣٥.
(١٠٧) الأعراف ٢١.
(١٠٨) طه ١٢٣.
(١٠٩) طه ١٢٤.
(١١٠) الميزان ج١٤ ص ٢٢٤.
(١١١) الكافي ج ١ ص ٤١٦ رواية ٢٣، وبحار الأنوار ج ٢٤ ص ١٧٦ رواية ٧ باب ٥٠.
(١١٢) بحار الأنوار ج ١١ص ٣٥ رواية ٣١ باب ١، ج ١١ ص ١١٢ رواية ٣٠ باب ١، الكافي ج ١ ص ٤١٦ رواية ٢٢.
(١١٣) بحار الأنوار ج ٢٦ ص ٢٧٩ رواية ١٢ باب ٦.
(١١٤) نفس الهامش ٨١.
(١١٥) بحار الأنوار ج ١١ ص ٧٩ رواية ٨ باب ٤.
(١١٦) بحار الأنوار ج ٢٤ ص ١٨٧ رواية ١ باب ٥٢.
(١١٧) بحار الأنوار ج ٢٤ ص ٨٧ رواية ٢ باب ٣٣، ج ٢٦ ص ٢٤٥ رواية ٨ باب ٥.
(١١٨) الشورى ٢٣.
(١١٩) البقرة ٢٧، الرعد ٢٥.
(١٢٠) بحار الأنوار ج ١٣ ص ٣١٦ رواية ٥٢ باب ١٠.
(١٢١) طه ١١٦ - ١١٧.
(١٢٢) البقرة ٣٥.
(١٢٣) الأعراف ١٩.
(١٢٤) طه ١١٨ - ١١٩.
(١٢٥) بحار الأنوار ج١١ ص١٢٢ رواية ٥٦ باب١.
(١٢٦) البقرة ٥٧، ٥٨.
(١٢٧) الأعراف/١٦٠، ١٦١.
(١٢٨) طه ٨٠.
(١٢٩) وهما (وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجُك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما) (ويا آدم أسكن أنت وزوجُك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين).
(١٣٠) بحار الأنوار ج ١٣ ص ١٦٧ باب ٦.
(١٣١) بحار الأنوار ج ٢٤ ص ٤٠١ رواية ١٣٠ باب ٦٧، ج ٣٦ ص ١٢٣ رواية ٦٦ باب ٣٩.
(١٣٢) بحار الأنوار ج ١١ ص ١٤٥ رواية ١٤ باب ٢.
(١٣٣) بحار الأنوار ج ١١ ص ١٦٧ رواية ١٣ باب ٢.
(١٣٤) بحار الأنوار ج ١٠ ص ٣٨٦ رواية ١ باب ٢٣.
(١٣٥) بحار الأنوار ج١١ ص١٦٤ رواية٩ باب٣.
(١٣٦) شرح دعاء السحر للإمام الخميني ص ٣٩، ٤٠.
(١٣٧) بحار الأنوار ج ١١ ص ١٦٥ رواية ٩ باب ٣.
(١٣٨) طه ١١٧.
(١٣٩) طه١٢٠.
(١٤٠) الناس ١ - ٦.
(١٤١) الأعراف ١٩٩.
(١٤٢) طه١٢٠.
(١٤٣) بحار الأنوار ج ١٦ ص ٣٨٩ رواية ٩٦ باب ١١.
(١٤٤) بحار الأنوار ج ٦٧ ص ٢٥٣ رواية ٨٨ باب ١٢.
(١٤٥) بحار الأنوار ج ٩٦ ص ٢٩٠ رواية ٨ باب ٣٦.
(١٤٦) الأعراف ٢٠ - ٢١.
(١٤٧) طه ١٢١.
(١٤٨) البقرة ٣٦.
(١٤٩) طه ١٢٣.
(١٥٠) البقرة ٣٦.
(١٥١) البقرة ٣٨.
(١٥٢) الأعراف ٢٤.
(١٥٣) البقرة ٥٧ - ٦١.
(١٥٤) المائدة ٣٠ - ٣٢.
(١٥٥) المائدة ٣٢.
(١٥٦) الأعراف ٢٢.
(١٥٧) طه ١٢٢ - ١٢٦.
(١٥٨) آل عمران ١٤.
(١٥٩) الرعد ٢٦.
(١٦٠) آل عمران ١٨٥.
(١٦١) الإسراء ٦٤.
(١٦٢) النساء ١٢٠.
(١٦٣) الأعراف ٢٢.
(١٦٤) آل عمران ١٩٧.
(١٦٥) الأعراف١٦، ١٧.
(١٦٦) النساء ١١٨.
(١٦٧) بحار الأنوار ج ٧٤ ص ٢٧١ رواية ١٠ باب ١٦.
(١٦٨) البقرة ٣٦ والأعراف ٢٤.
(١٦٩) الانسان١.
(١٧٠) الجاثية ٢٤.
(١٧١) يس ٤١ - ٤٤.
(١٧٢) النحل ٨٠.
(١٧٣) ص٧٩.
(١٧٤) الإسراء ٦٢.
(١٧٥) القصص ٦١.
(١٧٦) بحار الأنوار ج ٥٣ ص ٧٦ رواية ٧٩ باب ٢٩.
(١٧٧) بحار الأنوار ج ٩ ص ٢٩٤ رواية ٥ باب ٢.
(١٧٨) بحار الأنوار٩٦ ص ٣٦٨ رواية ٤٩ باب ٤٦.
(١٧٩) الآداب المعنوية للصلاة١٣٦ - ١٣٨.
(١٨٠) البحار ج٥ ص٢٤٥ رواية٣٥ باب١٠.
(١٨١) بحار الأنوار ج ٩٩ ص ٣٣ رواية ١٠ باب ٤.
(١٨٢) بحار الأنوار ج ١٠ ص ٧٥ رواية ١ باب ٥.
(١٨٣) الكافي ج٦ ص٣٩٣ رواية٢.
(١٨٤) البقرة ٢١٣.
(١٨٥) البقرة ١٥٦.
(١٨٦) راجع بحار الأنوار ج ٢ ص ٢٧٠ رواية ٢٨ باب ٣٣ وج ٣ ص ١٧ رواية ٢ باب ٣.
(١٨٧) البقرة٢٢.
(١٨٨) البقرة ٢٩.
(١٨٩) المؤمنون ١٩.
(١٩٠) فاطر ٨.
(١٩١) لقمان ١٩.
(١٩٢) إبراهيم ٣٢.
(١٩٣) النحل ١٤.
(١٩٤) النحل ١٤.
(١٩٥) راجع الأربعون حديثاً.
(١٩٦) المؤمنون ١١٥.
(١٩٧) الحديد٣.
(١٩٨) بحار الأنوار ج ٩٥ ص ٤٢٣ رواية ٤٣ باب ١٢٩.
(١٩٩) الشورى ٥٣.
(٢٠٠) البقرة ١٥٦.
(٢٠١) النجم ٤٢.
(٢٠٢) طه ٤١.
(٢٠٣) بحار الأنوار ج ٩٤ ص ١١١ رواية ١٦ باب ٣٢.
(٢٠٤) بحار الأنوار ج ٨٦ ص ٧٥ رواية ١٠ باب ٣٩.
(٢٠٥) بحار الأنوار ج ٩٠ ص ١٧١ رواية ١٩ باب ٩.
(٢٠٦) بحار الأنوار ج ٩٥ ص ٢٨١ رواية ٤ باب ١٠٨.
(٢٠٧) بحار الأنوار ج ٩٨ ص ٢٢٣ رواية ٣ باب ٢.
(٢٠٨) بحار الأنوار ج ٥ ص ٣١٣ رواية ٣ باب ١٥.
(٢٠٩) الرحمن ٢٦ - ٢٧.
(٢١٠) الصافات ٤١ - ٤٤.
(٢١١) العلق٨.
(٢١٢) هود ١١٩.
(٢١٣) بحار الأنوار ج ٥ ص ٣١٣ رواية ٢ باب ١٥.
(٢١٤) التوبة ٢١.
(٢١٥) التوبة ٧٢.
(٢١٦) بحار الأنوار ج ٦٧ ص ٣١٥ رواية ٥٠ باب ١٤.
(٢١٧) بحار الأنوار ج ٥ ص ١٩٥ رواية ١ باب ٧.
(٢١٨) الأربعون حديثاً الحديث ٣٥.
(٢١٩) الذاريات ٥٦.
(٢٢٠) فصلت ٥٣ - ٥٤.
(٢٢١) البقرة ٤٦.
(٢٢٢) الأنعام٧٥ - ٧٩.
(٢٢٣) شرح دعاء السحر ٢٦ - ٢٩.
(٢٢٤) دعاء الكميل.
(٢٢٥) بحار الأنوار ج ٩٤ ص ٣٨٩ رواية ٣ باب ٥٢.
(٢٢٦) بحار الأنوار ج ٩٤ ص ١١١ رواية ١٦ باب ٣٢.
(٢٢٧) بحار الأنوار ج١٢ ص٣٨٠ رواية١ باب١١.
(٢٢٨) بحار الأنوار ج ٧٠ ص ١٨٦ رواية ١ باب ٥٣.
(٢٢٩) صحيفة النور ج١٩ص٦١.
(٢٣٠) صحيفة النور ج١٩ص٢٨٦.
(٢٣١) الجمعة ٦.
(٢٣٢) شرح الأسماء الحسنى للسبزواري ج ص وأيضاً الحديث المنقول من مجالس الشيخ عن ابن عبدون عن ابن الزبير عن ابن فضال عن فضل بن محمد الاموى عن ربعى بن عبد الله عن الفضيل بن يسار عن ابى جعفر عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الله عز وجل الصوم لى وانا أُجزى به دليل على ذلك فجزاء الصوم إنِّما هو الله كما أكَّد على ذلك الإمام قدس سرُّه أيضاً. راجع بحار الأنوار ج ٩٦ ص ٢٥٥ رواية ٣٥ باب ٣٠.
(٢٣٣) العنكبوت ٥.
(٢٣٤) البقرة ٤٦.
(٢٣٥) يونس ٧.
(٢٣٦) الكهف ١١٠.
(٢٣٧) الصف ٩ والتوبة ٣٣.
(٢٣٨) الفتح ٢٨.
(٢٣٩) القصص ٦١.
(٢٤٠) النور ٥٥.
(٢٤١) النور ٥٥.
(٢٤٢) المنافقون ٩.
(٢٤٣) طه ١٥.
(٢٤٤) العنكبوت ٤٥.
(٢٤٥) الجمعة ١١.
(٢٤٦) النساء ١٠٤.
(٢٤٧) الأعراف ٢٠٦.
(٢٤٨) الأحزاب ٤٢.
(٢٤٩) طه ١٢٥.
(٢٥٠) الرعد ٢٨.
(٢٥١) النور ٣٧.
(٢٥٢) النحل ٤٤.
(٢٥٣) بحار الأنوار ج ١٦ ص ٣٥٩ رواية ٥٥ باب ١١.
(٢٥٤) المائدة ٨.
(٢٥٥) بحار الأنوار ج ١٠٢ ص ١٢٩ رواية ٤ باب ٨.
(٢٥٦) بحار الأنوار ج ٧٤ ص ٢٥٨ رواية ٥٥ باب ١٥.
(٢٥٧) الشورى ٢٤.
(٢٥٨) الفرقان٥٧.
(٢٥٩) الأنعام ٩٠.
(٢٦٠) يوسف١٠٤.
(٢٦١) بحار الأنوار ج٥١ ص٥٠ رواية٢٣ باب٥.
(٢٦٢) بحار الأنوار ج ١١ ص ١٢٢ رواية ٥٦ باب ١.
(٢٦٣) بحار الأنوار ج٥٢ ص٣٧٦ رواية١٧٨ باب٢٧.
(٢٦٤) بحار الأنوار ج ٦٣ ص ٢٥٤ رواية ١١٩ باب ٣.
(٢٦٥) بحار الأنوار ج ١١ ص ١٥٤ رواية ٣١ باب ٢، بحار الأنوار ج ٥٢ ص ٣٧٦ رواية ١٧٨ باب ٢٧.
(٢٦٦) بحار الأنوار ج ١١ ص ١٥١ رواية ٢٦ باب ٢.
(٢٦٧) ص٨٦ - ٨٨.
(٢٦٨) الكافي ج ٨ ص ٢٨٧ رواية ٤٣٢ باب ٨.
(٢٦٩) يونس ٢٠.
(٢٧٠) البقرة ٢١٣.
(٢٧١) الشورى ١٤.
(٢٧٢) بحار الأنوار ج ٢٤ ص ١٨٢ رواية ١٨ باب ٥٠.
(٢٧٣) بحار الأنوار ج ١١ ص ١٢٢ رواية ٥٦ باب ١.
(٢٧٤) بحار الأنوار ج ٢٤ ص ٣٢٥ رواية ٣٩ باب ٦٧.
(٢٧٥) الجن ١٦.
(٢٧٦) المائدة ٦٦.
(٢٧٧) الكافي ج١ ص ٢٥ رواية ٢١.
(٢٧٨) الكافي ج ٨ ص ٢٤٠ رواية ٢٣٩ باب ٨.
(٢٧٩) بحار الأنوار ج ٥٢ ص ٣٩١ رواية ٢١٣ باب ٢٧.
(٢٨٠) الفقيه ج٤ ص٣٥٢ رواية٥٧٦١ باب٢.
(٢٨١) الأعراف ١٧٢.
(٢٨٢) بحار الأنوار ج ٥٢ ص ٣٢٨ رواية ٤٦ باب ٢٧.
(٢٨٣) بحار الأنوار ج ٥٢ ص ٣٣٩ رواية ٨٤ باب ٢٧.
(٢٨٤) بحار الأنوار ج ٥٢ ص ٢٩١ رواية ٣٥ باب ٢٦.
(٢٨٥) بحار الأنوار ج ٥٣ ص ٦ رواية ١ باب ٢٨.
(٢٨٦) بحار الأنوار ج ٥٢ ص ٣١٦ رواية ١٢ باب ٢٧.
(٢٨٧) هود ٨٠.
(٢٨٨) بحار الأنوار ج ٥٢ ص ٣٢٧ رواية ٤٤ باب ٢٧.
(٢٨٩) بحار الأنوار ج ٥٣ ص ٨١ رواية ٨٦ باب ٢٩.
(٢٩٠) بحار الأنوار ج ٥٢ ص ٢٨٠ الرواية٦ باب ٢٦.
(٢٩١) بحار الأنوار ج ٥٢ ص ٣١٦ رواية ١١ باب ٢٧.
(٢٩٢) بحار الأنوار ج ٧٣ ص ٨٢ رواية ٤٥ باب ١٢٢.
(٢٩٣) بحار الأنوار ج ٥٢ ص ٣٣٥ رواية ٦٧ باب ٢٧.
(٢٩٤) طه ١١٨ - ١١٩.
(٢٩٥) البقرة ٥٩.
(٢٩٦) الكافي ج١ ص٤٨١ رواية٥.
(٢٩٧) هود ١١٩.
(٢٩٨) التوبة ١٠٧.
(٢٩٩) بحار الأنوار ج ٧٧ ص ٣٧٣ رواية ٣٥باب ١٤.
(٣٠٠) بحار الأنوار ج ٥ ص ٣٢٢ رواية ٣ باب ١٧.
(٣٠١) هود ٩٣.
(٣٠٢) بحار الأنوار ج ٦٨ ص ٣٤٧ رواية ١٧ باب ٢٧.
(٣٠٣) بحار الأنوار ج ٨٣ ص ١٤ رواية ٢٥ باب ٦.
(٣٠٤) الإنسان ٢٤.
(٣٠٥) بحار الأنوار ج ١٠ ص ٩٩ رواية ١ باب ٧ وج ٥٢ ص ١٢٢ رواية ٢ باب ٢٢.
(٣٠٦) بحار الأنوار ج ٥٢ ص ١٢٢ رواية ٣ باب ٢٢و ج ٥٢ ص ١٢٥ رواية ١١ باب ٢٢.
(٣٠٧) بحار الأنوار ج ٧٧ ص ١٤٣ رواية ١ باب ٧.
(٣٠٨) بحار الأنوار ج ٥٢ ص ١٢٣ رواية ٧ باب ٢٢.
(٣٠٩) بحار الأنوار ج٥٢ ص١٢٨.
(٣١٠) بحار الأنوار ج ٣٦ ص ٣٨٧ رواية ١ باب ٤٤.
(٣١١) بحار الأنوار ج ٨٦ ص ٣٢٣ رواية ٦٩ باب ٤٥.
(٣١٢) بحار الأنوار ج ٨٦ ص ٣٢٣ رواية ٦٩ باب ٤٥.
(٣١٣) بحار الأنوار ج ٨٦ ص ٢٣٥ رواية ٥٩ باب ٤٤.
(٣١٤) أعراف ٨.
(٣١٥) الأعراف ٩.
(٣١٦) يونس ٢٣.
(٣١٧) بحار الأنوار ج ٨٦ ص ٢١٦ رواية ٣٠ باب ٤٤.
(٣١٨) بحار الأنوار ج ٩٠ ص ١٦٤ رواية ١٥ باب ٩.
(٣١٩) بحار الأنوار ج ٤٧ ص ٣٦ رواية ٣٥ باب ٤.
(٣٢٠) بحار الأنوار ج ٥٣ ص ٩٦ رواية ١١١ باب ٢٩.
(٣٢١) بحار الأنوار ج ٥٢ ص ١٢٢ رواية ٤ باب ٢٢.
(٣٢٢) الإسراء ٨٤.
(٣٢٣) بقرة ٢١٤.
(٣٢٤) يوسف ١١٠.
(٣٢٥) النمل٦٢.
(٣٢٦) الحديد ٢٥.
(٣٢٧) النساء ١٣٥.
(٣٢٨) الشعراء ١٠٨، ١١٠، ١٢٦، ١٣١، ١٤٤، ١٥٠، ١٦٣، ١٧٩.
(٣٢٩) الزخرف ٦٣.
(٣٣٠) الأعراف١٦٥.
(٣٣١) الأنفال ٢٥.
(٣٣٢) الكافي ج ٢ ص ٩١ رواية ١٥.
(٣٣٣) بحار الأنوار ج ٢٥ ص ١٣٤ رواية ٦ باب ٤.
(٣٣٤) الكافي ج ١ ص ٤٠٠.