ضرب المدَّعي الحلاَّج الحسين بن منصور ألف سوط، وتقطيع أوصاله وأطراف جسده في عصر المقتدر:
روى الخطيب البغدادي في تاريخه عن إبراهيم بن مخلد، أنبأنا إسماعيل بن علي الخطبي في تاريخه، قال: وظهر أمر رجل يعرف بالحلاَّج(١) يقال له: الحسين بن منصور، وكان في حبس السلطان بسعاية وقعت به في وزارة علي بن عيسى الأولى، وذكر عنه ضروب من الزندقة، ووضع الحيل على تضليل الناس من جهات تشبه الشعوذة والسحر، وادّعاء النبوَّة، فكشفه علي بن عيسى عند قبضه عليه، وأنهى خبره إلى السلطان _ يعني المقتدر بالله(٢) _ فلم يقرّ بما رمى به من ذلك، وعاقبه وصلبه حيّاً أيّاماً متوالية في رحبة الجسر في كلّ يوم غدوة، وينادى عليه بما ذكر عنه، ثمّ ينزل به ثمّ يحبس، فأقام في الحبس سنين كثيرة، ينقل من حبس إلى حبس حتَّى حبس بأخرة في دار السلطان فاستغوى جماعة من غلمان السلطان وموَّه عليهم واستمالهم بضروب من حيله حتَّى صاروا يحمونه، ويدفعون عنه، ويرفّهونه، ثمّ راسل جماعة من الكتّاب وغيرهم ببغداد وغيرها، فاستجابوا له، وتراقى به الأمر حتَّى ذُكر أنَّه ادَّعى الربوبية، وسعى بجماعة من أصحابه إلى السلطان فقبض عليهم ووجد عند بعضهم كتباً له تدلُّ على تصديق ما ذُكر عنه، وأقرَّ بعضهم بلسانه بذلك، وانتشر خبره، وتكلَّم الناس في قتله، فأمر أمير المؤمنين بتسليمه إلى حامد بن العبّاس، وأمر أن يكشفه بحضرة القضاة، ويجمع بينه وبين أصحابه، فجرى في ذلك خطوب طوال ثمّ استيقن السلطان أمره، ووقف على ما ذكر له عنه، فأمر بقتله وإحراقه بالنار. فاُحضر مجلس الشرطة بالجانب الغربي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة، فضرب بالسياط نحواً من ألف سوط، وقُطّعت يداه ورجلاه، وضُربت عنقه، وحُرقت جثَّته بالنار، ونُصب رأسه للناس على سور السجن الجديد، وعُلّقت يداه ورجلاه إلى جانب رأسه(٣).
* وروى الطوسي رحمه الله عن أبي نصر هبة الله بن محمّد الكاتب ابن بنت اُمّ كلثوم بنت أبي جعفر العمري، قال: لمَّا أراد الله تعالى أن يكشف أمر الحلاَّج ويظهر فضيحته ويخزيه، وقع له أنَّ أبا سهل إسماعيل بن علي النوبختي رضي الله عنه ممَّن تجوز عليه مخرقته وتتمُّ عليه حيلته، فوجَّه إليه يستدعيه، وظنَّ أنَّ أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الأمر بفرط جهله، وقدر أن يستجرّه إليه فيتمخرق (به) ويتسوَّف بانقياده على غيره، فيستتبّ له ما قصد إليه من الحيلة والبهرجة على الضعفة، لقدر أبي سهل في أنفس الناس ومحلّه من العلم والأدب أيضاً عندهم، ويقول له في مراسلته إيّاه: إنّي وكيل صاحب الزمان عليه السلام _ وبهذا أوّلاً كان يستجرّ الجهال ثمّ يعلو منه إلى غيره _ وقد اُمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك لتقوي نفسك، ولا ترتاب بهذا الأمر. فأرسل إليه أبو سهل رضي الله عنه يقول له: إنّي أسألك أمراً يسيراً يخفُّ مثله عليك في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين، وهو أنّي رجل اُحبّ الجواري وأصبو إليهنَّ، ولي منهنَّ عدَّة أتحظاهنَّ والشيب يبعدني عنهنَّ ويبغّضني إليهنَّ، وأحتاج أن أخضبه في كلّ جمعة، وأتحمَّل منه مشقّة شديدة لأستر عنهنَّ ذلك، وإلاَّ انكشف أمري عندهنَّ، فصار القرب بعداً والوصال هجراً، واُريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته، وتجعل لحيتي سوداء، فإنّي طوع يديك، وصائر إليك، وقائل بقولك، وداع إلى مذهبك، مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة. فلمَّا سمع ذلك الحلاَّج من قوله وجوابه علم أنَّه قد أخطأ في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يرد إليه جواباً، ولم يرسل إليه رسولاً، وصيَّره أبو سهل رضي الله عنه أحدوثة وضحكة ويطنز به عند كلّ أحد، وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سبباً لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه(٤).
الهوامش:
ــــــــــــــــــــــ
(١) هو أبو معتب الحسين بن منصور البيضاوي، نشأ بواسط أو بتستر وقدم بغداد فخالط الصوفية وصحب من مشيختهم الجنيد بن محمّد وأبا الحسين النوري وعمرو المكّي، ذكره الشيخ رحمه الله من المذمومين الذين ادّعوا النيابة لعنهم الله.
(٢) قال الزركلي في الأعلام (ج ٢/ ص ١٢١): جعفر بن أحمد بن طلحة، أبو الفضل، المقتدر بالله ابن المعتضد ابن الموفَّق، خليفة عباسي. ولد في بغداد وبويع بالخلافة بعد وفاة أخيه المكتفي سنة (٢٩٥هـ) فاستصغره الناس، فخلعوه سنة (٢٩٦هـ) ونصبوا عبد الله بن المعتزّ، ثمّ قتلوا ابن المعتزّ واُعيد المقتدر بعد يومين، فطالت أيّامه، وكثرت فيها الفتن. وعصاه خادم له اسمه مؤنس - كان يستعين به في أكثر شؤونه - فاسترضاه المقتدر، فعاد إلى الطاعة، ثمّ لم يلبث أن جمع أنصاراً له ودخل بهم دار المقتدر فأخرجوه وأخرجوا معه اُمّه وأولاده وخواصّ جواريه واعتقلوهم في دار مؤنس سنة (٣١٧هـ) وبايعوا القاهر بالله أخا المقتدر فأقام يومين، وثارت فرقة من الجيش تدعى الرجّالة، فقتلت بعض رؤساء الغلمان وأعادت المقتدر إلى الملك.
وخرج مؤنس من بغداد في جمع من عصاة الجند والغلمان فقصد الموصل فاحتلّها ثمّ عاد فهاجم بغداد، فبرز له المقتدر بعسكره، فانهزم أصحاب المقتدر وبقي منفرداً، فرآه جماعة من المغاربة فقتلوه. وكان ضعيفاً مبذّراً استولى على الملك في عهده خدمه ونساؤه وخاصَّته. وفي أيّامه قتل الحلاَّج، وقوي أبو طاهر القرمطي، قال ابن دحية: قتل القرمطي الخلق العظيم بالعراق والجزيرة والشام إلى أن عاد إلى الأحساء وملكها، ووزراء الخليفة في ذلك كلّه يتنافسون في صيد الدرّاج وينثرون على راميها المال الجزل ويدخلون في الشريعة اللعب والهزل.
(٣) تاريخ بغداد ٨: ١٢٤؛ سير أعلام النبلاء ١٤: ٣٣٥ و٣٣٦؛ البداية والنهاية ١١: ١٥٨.
(٤) الغيبة للطوسي: ٤٠١ و٤٠٢/ ح ٣٧٦.